الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فلسفة العقوبة في الإسلام


ينظر المؤمن إلى الشريعة الغراء بعين الرضا والاطمئنان، دون حاجة في نفسه إلى إقامة الحجة على صلاحيتها وأفضليتها؛ ليقينه ابتداء بأن الله تعالى وضعها ليرعى مصالح خلقه، وأنه سبحانه أرحم بهم من أنفسهم.

بينما يرى غيره ـ مهما أفحَمَتهُ الحُجَج وقَهرَتهُ الدلائل ـ أن الشريعة الإسلامية لا تتناسب والعصر الحديث، بل هي مثال للبداوة والتخلف الحضاري ـ على حدِّ تعبير بعضهم ـ لاسِيَّما إذا تطرَّق الحديث إلى العقوبات التي قرَّرتها الشريعة الغراء لقمع المجرمين، وردع الفاسدين، وقطع السَّبيل على المنحرفين.

فإذا ما ذهبتَ تستقصي أسباب اعتراض هؤلاء على الشريعة المحمَّدية في العموم، وعلى العقوبات المقرَّرة فيها على وجه الخصوص؛ وجدتها جميعًا ترجع إلى سببين اثنين:
أولهما: ذلك الثبات الذي اتَّسَمت به الحدود الشرعية منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان، فعلى الرغم مما اعترى تلك الأزمان من تغير في العادات والأشخاص والأحوال، لم تتغير تلك الحدود فترتفع ـ مثلًا ـ إلى مزيد من الشِّدة، أو تنخفض إلى شيء من اللِّين!
وثانيهما: تلك القسوة التي يتخيلها البعض في الحدود الشرعية، إذ ينظر هؤلاء إلى قطع يد السارق، ورجم الزاني على أنه نوع من القسوة التي ترفضها إنسانية العصر الحديث؛ لأنها تعتبر المجتمع ـ لسبب أو لآخر ـ شريكًا للمجرم فيما أقدم عليه من الجرائم!
ولعل عاقلًا لا يشك ـ بعد البحث الدقيق ـ أن مصدر هذين السَّبَبين ليس إلا الوهم المرتكز في النفس، دون العقل والمنطق.

أما الاعتراض على ثبات الحدود الشرعية على مرَّ الأزمان، فمنشؤه تبرُّم الإنسان ورغبتُه في الفرار من القديم، واحتفائه بالجديد، دون النظر إلى أثر كلٍّ منهما، وليس ذلك إلا خللًا نفسيًّا يرجع في حقيقته إلى ما يسمى في علم النفس بـ «نظرية ردِّ الفعل الشرطي»، فحين رأت النفس البشرية أن تقادم الزمن ينتج عنه استهلاك القديم وذهاب جِدَّته وما فيه من الخير، توهَّمت أن كلَّ قديم يصير مستهلكًا ولا خير فيه، في حين يقرِّر العقل والمنطق أن قيمة كلِّ قديم وجديد تكون بحسَب جدواه وآثاره، فكم من جديد كان مصدر شقاء ودمار، وكم من قديم كان مصدر سعادة وعَمار.

ولعل أصحاب النفوس المشمئزة من كلِّ قديم يطردون نظرتهم تلك إلى سائر مقوِّمات الحياة، فيقاطعون الشمس والماء، والأرض والهواء، والزرع والضرع؛ ولله في خلقه شؤون.

وأما الاعتراض بالقسوة المزعومة في الحدود، فمنشؤه كذلك الوهم النفسي؛ فإن شرع العقوبة لا يكون إلا فرعًا عن النظر إلى الجريمة التي استوجبتها، وحينئذٍ يكون توجيه النقد إلى العقوبة في حدِّ ذاتها ـ بعيدًا عن النظر إلى خطورة موجِبها ـ نوعًا من الوهم، وتغافلًا عن أوضح النظم التي يقوم عليها تشريع العقوبات.

نعم! ربما كان الأفضل ألا يوجد في المجتمع عقوبات أصلًا، وأن يكون كلُّ شخص حرًّا فيما يفعل وفيما يدع، ولكن طبيعة النظام الاجتماعي توجب نوعًا من الالتزام، وتفاوت الناس في تقدير هذا النظام توجب نوعًا من الرقابة، ومن هنا اقتضت الضرورة وضع مؤيدات جزائية تحذِّر وتردَع، ولا ردع ولا تحذير بدون شِدَّة وإيلام.

على أن الإسلام قد وضع الميزان العدل لمعرفة شدة العقوبة المناسبة لكلِّ جريمة، حين قسم الجرائم إلى نوعين:
أولهما: جرائم أساسية، هي أمهات الجرائم، التي تعدُّ انتهاكًا لكليٍّ من حقوق الله تعالى أو حقوق المخلوقين، أو انتهاكًا لقيم أخلاقية ذات خطورة اجتماعية، والتي من شأنها أن تدمر جوهر الكليات الخمس التي قامت جميع الشرائع لحفظها، وهي: الدين، والحياة، والعقل، والعرض، والمال.

وثانيهما: جرائم فرعية، وهي التي تعد انتهاكًا لكل ما هو تحسيني لتحقيق تلك المقاصد الخمسة، مما يعتبرها مقدمة للجرائم الأساسية أو ذيلًا من ذيولها، أو تهييجًا ودعوة إليها على أقلِّ تقدير.

نظر الإسلام إلى الجرائم الأساسية على أنها أمهات المفاسد؛ فشرع لها عقوبات محددة بنصوص صريحة واضحة، سدًّا لسبل التهاون في أمرها؛ فقرَّر حدَّ الردة؛ حفظًا للدين. وقرَّر القصاص من القاتل؛ حفظًا للحياة. وقرَّر حدَّ الشُّرب؛ حفظًا للعقول. وقرَّر حدَّ الزنا وحدَّ القذف؛ حفظًا للأعراض. وقرَّر حدَّ الحرابة وحدَّ السرقة؛ حفظًا للأموال.

ونظر إلى الجرائم الفرعية؛ فشرع لها عقوبات تعزيرية، عهد إلى القاضي بتقديرها على حسَب ما يناسب خطورتها زمانًا ومكانًا وحالًا، وبقيود وضوابط معروفة في كتب الفقه.

وعلى أن تلك الحدود في قسوتها وشدتها لا تعدو أن تكون تلويحًا وتهديدًا، وليست انتقامًا، ولا علاجًا لمشكلة بعد وقوعها، بل هي عمل وقائي، تنطلق به الشريعة من أدق الأسس التربوية السليمة للمجتمع.

فها هو الشرع الشريف يعلن وبكل وضوح أن الحدود تدرأ بالشبهات، فأي احتمال لعدم تكامل شروط إقامة الحدِّ، سواء تعلَّق بالمتهم أو بالظرف الذي ارتكبت فيه الجريمة؛ يسقط الحدَّ ويلغي ثبوته.

فلا يثبت حدُّ الزنا إلا بشهادة أربع من الشهود العدول، وهو أمر إذا توافر كان معناه أن الزاني قد استعلن بجريمته على مرأى ومسمع من الناس، متهاونًا في ذلك بكرامة الأمة وسمعة المجتمع، وهو أمر يستحق العقوبة لا ريب.

ولا يثبت القصاص ولا حدُّ القذف إلا بمطالبة صاحب الحق فيه، وهو المقذوف أو وليُّ الدم، فإن عفا سقط الحد.

ولا يثبت حدُّ الردة إلا بإصرار المرتد على المجاهرة بردَّته بين الناس، طعنًا في الخاصة، وتشويشًا على العامة، دون رجوع عن هذه المجاهرة بنقاش أو تعزير، فلا يطلب من أحد حينئذ أن يكون أرحم به من نفسه.

ويُدرأ حدُّ السرقة بأدنى شبهة؛ حتى قرَّر الفقهاء أن لا حدَّ على من سرق من مال شريكه، أو من مال أصله أو فرعه، أو من مال زوجته، أو من المال العام إن كان له فيه نصيب، أو سرق أثناء غلاء أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك.

فلم يبق إلا حالة الاعتراف الصريح، وهو شيء نادر ـ لمخالفته الطبيعة البشرية ـ فلا يقام عليه أي اعتبار، وإذا ما وقع كان على القاضي أن يبادر فيقطع سبيل الإقرار على الجاني، قبل أن يتفوه بالاعتراف القاطع الصريح.

فانتهى حال الحدود ـ في غالب أحوالها ـ إلى أمرين: التسوية الحقوقية، كردِّ السارق ما سرق عينًا أو مثلًا أو قيمة، والتعزير بحسَب ما يرى القاضي من حفظ المصلحة العامة، وتحقيق مقاصد الشرع من العقوبة.

فتلك قصة القسوة التي تتمزق لها قلوب المنكرين لحدود الشريعة الإسلامية، ولك أن تعجب من قوم تتدفق مشاعر الرحمة في نفوسهم إذا ما تخيلوا قسوة الحدود، ثم لا يستشعرون أي رحمة بالمجتمعات التي تنتشر فيها القرصنة والإجرام، ويسهل فيها إزهاق الأرواح طمعًا في تمزيق عرض أو نهب مال، فإذا ما لوحت الشريعة المحمدية بعصا التأديب التي لا بديل عنها لحفظ المجتمع من الفوضى والوحشية، حضرتهم مشاعر الرحمة بالقاتل، واللِّص، وهاتك الأعراض، ولله في خلقه شؤون!!.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط