الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أنا.. ومولانا.. والأستاذ


فى طرقات، وحجرات، ونفوس تلاميذه فى مؤسسة دار المعارف ومجلة أكتوبر روح الأستاذ أنيس منصور مازالت حاضرة.

وقبل اختراع الكمبيوتر وجدت الآلة الكاتبة، وضمن التجهيزات الفنية لمجلة أكتوبر الشابة التى أسسها الأستاذ أنيس وصدرت عام 1976 كانت موضوعات الكُتّاب والصحفيين تكتب على الآلة الكاتبة قبل أن تذهب إلى قسم الجمع لتقل الأخطاء (المطبعية)، إلى أدنى حد.

ومن بين بنات قسم الآلة الكاتبة كان هناك من تخصص فى قراءة خط الأستاذ أنيس وفك الرموز التى يضعها على الورق الأصفر الذى يروق مزاج الصحفيين الكتابة عليه، كان الأستاذ يكتب – تقريبًا – كما كتب العرب قبل اختراع التنقيط بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، خلال القرن الهجرى الأول وكانت عواطف عبدالباسط – رحمها الله – تستطيع أن تميز الصاد من الضاد والفاء من القاف فتضع على رسم الحرف نقطة أو نقطتين حسبما فهمت من سياق الجملة، وجملة بجوار أختها يأتى فى النهاية مقال الأستاذ كلاما جميلا رشيقا جذابا من عنوانه إلى خاتمته، فإذا سقطت عيناك على كلمات المقال فلن تستطيع إغماضهما وتتمنى ألا تنتهى منه، هذه الحالة التى أصابتنى وأنا صبى لم أتجاوز الثانية عشرة من العمر حين شعرت بالكلمات تتسرب إلى روحى قبل عقلى وأنا أقفز بعينى على سطور كتاب أدب الرحلات من تأليف أنيس منصور «غريب فى بلاد غريبة» وكان أخى الأكبر قد استعاره من مكتبة المدرسة الثانوى فأخذته منه ولم أتركه أو أعيده إليه إلا بعد أن انتهيت من قراءته وبعدها ندهتنى نداهة القراءة وأنيس منصور.
‫(١)

ربطنى الأستاذ بخيوط من ضوء غير مرئى واستقر منذ اللحظة الأولى فى وعيى نموذجا أخاذا للكاتب والكتابة. وقبل عشر سنوات تقريبا من الآن كنا نحتفل بعيد ميلاد «أكتوبر» الثلاثين ونلت شرف لقاء خاص مع الأستاذ حين ذهبت لإجراء حوار معه بصحبة رئيس التحرير فى ذلك الوقت الأستاذ إسماعيل منتصر ونائب رئيس التحرير الفنان التشكيلى المرحوم محمد إبراهيم وكلاهما من الجيل الأول الذى ساهم فى إصدار «أكتوبر»، والتقطت لنا الصور مع الأستاذ وسألناه وأجاب وهو – بالمناسبة - يتكلم كما يكتب. وسألته: ما هو حجم أو نسبة تدخلك فى المادة التى كنت تكتبها فى «أكتوبر» على لسان الرئيس الراحل السادات؟.. فأجاب: أقول لك: حدث أن اتصلت بالرئيس السادات وقلت له يا ريس أنت لم تتحدث إلى «أكتوبر» منذ مدة ونريد أن نجرى معك حوارًا.. فقال السادات: يا أنيس أنا مش فاضى اليومين دول حط انت الأسئلة والإجابات واعرضها علىَّ . فقمت بهذا وجمعت المادة وأرسلتها للرئيس فى ظرف مغلق وبعد يومين عاد لى الظرف بداخله الأوراق التى أرسلتها للرئيس تحمل توقيعه وتأشيرة بالموافقة على النشر ولم يغير أكثر من كلمتين أو ثلاث فى الكلام الذى كتبته، وطبعت المجلة وأرسلت له العدد وبعد ساعات قليلة اتصلت به. يا ريس وصلك العدد؟ أيوه يا أنيس والله الحديث كويس بس ماقولتليش إيه رأيك فى إجاباتى على الأسئلة!! ‫
(٢)

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أجلس فيها إلى الأستاذ وأستمع له ومنه فقد سبقتها بعشرين عامًا تقريبًا لقاءات أخرى، وكان هذا فى صيف عام 1985 وقد انتهيت لتوى من امتحانات بكالوريوس كلية الإعلام وأرسلنى أستاذى فى الكلية د. محمود علم الدين إلى سكرتير تحرير مجلة «وادى النيل» التى أسسها الأستاذ ورأس تحريرها بعد أن ترك «أكتوبر» ولم يتم التجديد له فيها بعد بلوغه سن الستين، وكان السادات قد رحل وجاء الرئيس مبارك وقيل إن مبارك كان يغار من علاقة الرئيس السادات بالأستاذ المفضل لديه هذه العلاقة التى تجاوزت علاقة كاتب أو صحفى بمسئول أو مصدر مهم إلى آفاق أخرى من الثقة المتبادلة وصلت إلى تكليف السادات للأستاذ بإنجاز مهام سياسية خاصة فى مرحلة ما بعد السلام مع إسرائيل .

وعندما دخلت دار المعارف فى البداية لم ألتحق بالعمل فى «أكتوبر» ولكن بدأت فى المجلة التى تعبر عن مشروع التكامل السياسى والاقتصادى بين الشقيقتين مصر والسودان التى وقعها الرئيسان السادات وجعفر نميرى عام 1974 واستمرت أنشطة التكامل حتى رحيل نميرى عن حكم السودان .

وكان قد تم تخصيص مكتب للأستاذ فى الدور التاسع من مبنى دار المعارف وبجوار المكتب غرفة لا تزيد مساحتها عن 20 مترا ضمت مدير تحرير المجلة وسكرتير تحريرها المرحومين محمود فوزى وأمين أبوالمجد اللذين مثلا مع الأستاذ هيئة إصدار «وادى النيل» الأساسية، أما باقى فريق العمل فكانوا من أبناء «أكتوبر» تلاميذ الأستاذ.
‫(٣)

..والبدايات دائمًا أجمل، وبدايتى الحقيقية للعمل فى الصحافة كانت مع وضع قدمى فى هذا المبنى العريق رقم 1119 شارع كورنيش النيل، وقبل أن أتجاوز بوابته الرئيسية رفعت رأسى أعلى المدخل الرئيسى وقرأت اسم «دار المعارف» مكتوب بحروف من نحاس بخط كوفى جميل وفى أعلى المبنى يافطة أخرى بحروف مضيئة تحاكى لوجو اسم المجلة «أكتوبر» يراها بوضوح القادم على كوبرى أكتوبر من اتجاه الجيزة إلى التحرير وحروف الاسم صممها الفنان شريف رضا، ودخلت المبنى وصعدت إلى الدور التاسع وبدأت العمل فى مجلة «وادى النيل» من الغرفة التى ضمت مدير التحرير وسكرتير تحرير المجلة، والغرفة تطل على الطرقة التى بها «الأسانسير» وعندما كنت ألمح الأستاذ ذاهبا ليركب الأسانسير كنت أسرع بالوقوف خلف باب الحجرة لأختلس النظر إليه. ..

فى هذا الوقت أيضا كنت قد انتهيت من قراءة كتاب الأستاذ «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» التى سبق نشرها فى حلقات مسلسلة فى «أكتوبر».. أجمل وأعظم ما كتب الأستاذ الذى رأيته بعيون الخيال وأنا أطالع ما كتب، يمشى ويجلس ويتحدث ويتألم ويناقش محمود عباس العقاد نصف الآلة كما صوره الأستاذ على الورق أو كما فهمت من كلامه، وأعجبنى أنيس منصور كثيرا أن ينادى العقاد تلميذه الشاب أنيس منصور فيقول له يا مولانا، ويرد عليه أنيس يا أستاذ، ويحكى الأستاذ أنيس عن مولانا الشاب أنيس وعلاقته بالعقاد فيشّرق ويغّرب ويبحر بالقارئ إلى شواطىء بعيدة، ويغوص به فى بحار عميقة من الفلسفة والدين والتاريخ والمعارك الأدبية وغراميات العقاد وانتقامه ممن أحبها فخانته ويصف لك بيته وأحذيته وكوفيته وعزة نفسه وكبريائه ومأثوراته وحكمته وتفسيره لحيرة الإنسان تجاه الكون ويقينه فى الله واستكناه الغيب.. شخوص ومواقف وحياة كاملة كنت أراها على الورق، وأتتبع أبطالها بخيالى وأبحث لنفسى عن دور معهم فأرانى أنا الشاب أنيس منصور، وأستبدل أنيس منصور بالعقاد. وقد عشت هذه الحالة تقريبا عندما اصطحبنى سكرتير تحرير مجلة «وادى النيل» لأقابل الأستاذ أنيس رئيس التحرير لأول مرة بعد شهر تقريبا من عملى فى المجلة، وعندما انفتح باب مكتبه وجدت أنيس منصور بجلالة قدره واقفا فى منتصف غرفة المكتب الطويلة ينتظرنا أنا وزميل آخر لى، ويقودنا لنجلس أمامه ويذهب فيجلس هو على مكتبه ويدفعنا للكلام، يسألنى - ويجيب زميلى - عن كلية الإعلام وماذا تعلمنا فيها وأسماء أساتذتنا ويلقى بدعاباته اللطيفة ثم يرن جرس تليفونه فيرفع السماعة ونعرف أن الذى يحدثه على الطرف الآخر الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ونفهم من ردود الأستاذ أن عبدالوهاب يسأله عن رأيه فى لحن أغنية «فى يوم وليلة» التى غنتها وردة لأول مرة فى حفل كبير فى الليلة السابقة، ومعروفا عن الأستاذ أنه كان يفضل فايزة أحمد عن وردة لكنه أيضا كان مجاملا إلى أقصى حد مع عبدالوهاب.. واستمرت المكالمة لوقت ليس قليلا تخللتها لحظات كان الأستاذ يغلق فيها بيده بوق سماعة التليفون حتى لا يسمعه الطرف الآخر على السماعة ويتوجه إلىَّ وزميلى بالحديث يبدى ملاحظته: «أكبر داعية لعبد الوهاب هو محمد عبد الوهاب» يقصد أن الأستاذ هو أحسن من يصنع الدعاية لنفسه ويعود ليواصل حديثه فى التليفون يرد على عبدالوهاب: - أنت إمام المجاملين.. .. .. .. .. - والله أنا اتفرجت على نصف الحفلة ما أنت عارف أنا بنام بدرى لكن ما سمعته شىء رائع. .. .. .. .. - رأى فلان لأ ولا يهمك.. ده مثل الرجل الذى حضر لأول مرة حلقة درس الإمام الشافعى، وكانت إحدى ساقى الإمام تؤلمه فكان يمدها وهو جالس بين تلاميذه يلقى عليهم الدرس، وذات يوم حضر شخص غريب وجلس فى الصف الأول ورآه الإمام على رأسه عمامة ضخمة مهيب الطلعة فخجل أن يمد ساقه المريضة فى وجه الرجل واحتمل الألم إلى أن تحدث الأخير فسأل الإمام من أي وقت لأي وقت يكون الصيام فقال الإمام من طلوع الفجر الصادق الى مغيب الشمس فقال الرجل يا إمام فإن لم تغب الشمس؟! فمد الإمام ساقه التى تؤلمه وقال قولته المشهورة آن للشافعى أن يمد قدمه.. يقصد أن يمدها فى وجه الشخص التافه الذى فضحه سؤاله.. وبسبب هذه الحكاية التى قرأتها من قبل للأستاذ جلست أمامه أسمع ولا أتكلم لأننى خشيت أن أتحدث أمامه بكلام فيراه تافها ولا أستحق بعدها أن أكون مولانا الشاب أنيس منصور حين كان يجلس إلى العقاد.

‫(٤)

وتوقف صدور مجلة «وادى النيل» بعد خمسة أو ستة أعداد، لكننى كنت قد حظيت بلقاء الأستاذ مرات ودخلت إليه بماكيتات وبروفات وتناولت معه ومع عدد مختار من صحفى أكتوبر الغداء.. كباب وكفتة وكان يداعبنا أنا وزميلى لماذا لا تأكلان .. هل تتمرنان فى الصحافة والأكل؟! وبعد شهور من ثورة الضابط السودانى عبدالرحمن سوار الذهب الذى كان يحمل رتبة الفريق على حكم الرئيس جعفر النميرى وكان ذلك فى 6 أبريل 1985 تم تجميد أنشطة التكامل بين مصر والسودان وتوقف صدور وادى النيل وبقى بعدها الأستاذ يأتى إلى مكتبه فى الدور التاسع بدار المعارف عدة شهور قبل أن ينتقل إلى مكتبه فى الأهرام ويستقر فيه وتم تكليفه عام 1989 حسبما أتذكر برئاسة تحرير جورنال الحزب الوطنى «مايو» وكان إصدارا لا روح فيه ولا يعبر عن قناعات حقيقية ولا أيديولوجية لحزب ضخم الجثة لكن بلا عقل، وبدا أن الأستاذ نفسه أنسدت أو أصبح كمن انتزعوا منه أجمل وأذكى وأنجح أولاده «أكتوبر» وهو الذى قال للرئيس السادات فى ميت أبو الكوم وهو يشير لأسرة تحرير أكتوبر الذين اصطحبهم للقائه، هؤلاء أحفادك يا سيادة الرئيس.. كيف يا أنيس؟!.. أكتوبر من بنات أفكارك ياريس وهؤلاء أبناء أكتوبر فهم أحفادك.. هاهاها. وعند الستين من عمره وهو فى كامل لياقته الذهنية والصحفية غادر الأستاذ دار المعارف التى رأس مجلس إداراتها، وغادر كرسى رئاسة تحرير «أكتوبر» لكنه لم يغادر صفحاتها كاتبًا متألقًا مبدعًا، فلما توقف عن الكتابة فيها وهو مازال حيًا يرزق لجأنا فى «أكتوبر» إلى أرشيفه حسب طلبه نخرج من مقالاته فقرات تصلح للنشر فى الصفحة الأخيرة وكنا أحيانًا نحتاج لأن نضع عناوين لهذه الفقرات المجتزأة، وفى ذات يوم اتصل بى رئيس التحرير الأستاذ إسماعيل منتصر من مكتبه فقال سوف أبعث لك مقال الأستاذ أنيس والنبى حط له عنوان، وجاءتنى بروفة المقال وطالعت الفقرات الأولى منه ففهمت منها أن الأستاذ يكتب عن الملكة فريدة فاروق.. الزوجة الأولى للملك فاروق التى حملت اسم زوجها حسب البروتوكول الملكى، وفى المقال أشار الأستاذ إلى مذكرات الملكة هذه السيدة التى أحبها المصريون كثيرًا وتعاطفوا معها بعد أن طلقها فاروق وتزوج ناريمان.. ولم أستغرق أكثر من 5 دقائق رفعت بعدها سماعة التليفون وقلت للأستاذ إسماعيل: اكتب عندك العنوان: «مذكرات الملكة ف. ف»، وهتف رئيس التحرير معجبًا بالعنوان الذى استوحيت فيه روح الأستاذ وعناوين الأستاذ وبعد أن وضعت السماعة مع رئيس التحرير كأننى سمعت صوت الأستاذ أنيس منصور ينادنى: يا مولانا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط