الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

قراءة في سورة النبأ (1)


جاء النص القرآني الفريد متحديا أهل الأرض آن نزوله مؤكدا على كونه المعجزة الإلهية إلى أن يرث الحق –سبحانه وتعالى– الأرض ومن عليها ولازالت الدراسات والأبحاث الدائرة حول النص المبارك مبينة ومؤكدة على صدق ما نص عليه حين نزوله، وأنا إيزاء النص المبارك متأملا في نظمه الفريد وتصويره المعجز أبحث عن سر النظم القرآني الفريد الذي أعجز الفصحاء والبلاغاء، فهذه الصور القرآنية لازالت تلاحق زهني وتكون خير مؤثر في نفسيتي حينما أرتحل بين سوره وآياته المباركات، ففي سورة النبأ التي اتسمت آياتها بدقة التعبير التي تمس الحس والوجدان واللمسات الفنية الكامنة في القوافي والفواصل القرآنية، وبراعة التصوير التي آخالها محل القوة والتبيان في الآداء القرآني الفريد والذي يتماس مع آليتي الإمتاع والإقناع للعقلية العربية، يشخص النص المبارك متحديا أصحاب التشكيك في يوم القيامة والنص المبلغ به.

 قال تعالى: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)، لافتا إلى أن التشكيك كائن في أمر عظيم ودليلي على ذلك أني سمعت النص المبارك يصرح بلفظة (النَّبَإِ) دون (الخبر)، مستعينا بنظمه الفريد ومتحديا أصحاب الملكة الصادقة في اللغة العربية، ومؤكدا على خلوه من التكرار في قوله تعالى: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ففي الآية المباركة الأولى أخالها جاءت متحدية أعتراض أهل الاختلاف على ما اختلفوا فيه في عين حياتهم الدنيا، وفي الآية الثانية يتحقق صدق النص المبارك في عين حياتهم الأخروية، ودليلي على ذلك التسلسل المتتابع في السورة المباركة، فإذا ما دقق الرائي في الآيات القرآنية المباركة وتتابعها في السورة المباركة لوجد أنها اختصت بمشهدين يتخللهما العديد من الصور الملازمة:

1-المشهد الأول (عين اليقين): مشهد ما فوق الأرض الذي تتخلله صور معددة لآلاء الله –سبحانه وتعالى– على خلقه وعياله الممثلة في قوله تعالى: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)".

ومشاهد متتابعة وتحدية لعقل العربي المعاصر لآن نزول القرآن الكريم؛ ليأتي النص القرآنى الكريم مقررا بستفهامه عن مشاهد معايشه للمعارضين، وقد يظن اللقارئ للنص المبارك أن هذا التنقل غلق للقضية السالفة، والواقع أن ما سيأتي من آيات تبيان لما سبق؛ فهذه الأرض ممهدة والجبال راسخة والبشرية بركنيها الذكر والأنثى مصدرا للتكاثر، والليل سكنة للإنسان وراحة له والنهار للانتشار والبحث عن الرزق، السماء الفسيحة، والرياح مصدرا للأمطار باعتبارها السبب في تكوين السحاب المحالة إلى أمطار ثم رزق ونعيم.

نِعم وآلاء يشاهدها الرائي ويشعر بها المتأمل كالطرقات المتعددة لتكون خير مفيق لغفلته عن عطاءات ربه، وتكون مخاطبة لعقل الإنسان فيما شاهدة لتكون تصديقا لما لم يشهده.

2- المشهد الثاني (حق اليقين): الممثلة في الصور القرآنية التي يشاهدها المنكر والمشكك باعتبار ما سيكون يوم القيامة وعيدا لانكاره بعد الحشد الهائل من الصور والأدلة المرئية في حياته الدنيا وهو بكامل إرادته والقدرة على الاختيار قبل أن يكون في قوة التسير وعدم الإرادة الذاتية، قال تعالى: "إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا(19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِّلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَّابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)"

ليأتي الوعيد المنتظر لأهل الشرك مؤكدا بالعذاب الشديد الذي يأتي في ميقات موقوت، ويخيل إلىَّ فزاعة الموقف من خلال مشاهده المتولدة من نظم النص الفريد، فهذه النفخة في الصور الآذنة بهول القيامة المتتابعة بمشاهد انفتاح أبواب السماوات، وتطاير الجبال وكأنها شيء لم يكن، وتشخص جهنم بجبروتها راصدة ومتعقبة لمن أبى وعصى لتكون مستقرا لهم ليصيروا من أهلها يذوقون مرارتها ويتجرعون آلامها؛ ليتجلى براعة النظم القرآني مبينا أن الله –سبحانه وتعالى– ليس بظلام للعبيد، والدليل على ذلك أن الجزاء موافقا لجنس العمل في الحياة الدنيا التي كانت لهم دار رفض وعصيان.

لتتقابل هذه المشاهد مع من آمن وصدق، قال تعالى: "إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَٰنِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ مَآبًا (39)" ليأتي النظم القرآني مؤكدا على فوز الذين اتقوا وصدقوا ليتخلل هذا التأكيد مشهد النعيم المنتظر للمؤمنين المتقين، الذي تتخلله مجموعة من الصور الواصفة للجنة ونعيمها.

ليعود مرة أخرى النظم القرآني مخاطبا لأصحاب التشكيك والاعتراض والتكذيب، وهي النقطة محل التأكيد والاستشهاد والدائرة حولها المشاهد المصورة لنتيجة فعلتهم –المشركين- وتكذيبهم، قال تعالى: "إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)" ليعود النص القرآني الفريد بعد أن ألقى بظلاله المحيلة باعتبار ما سيكون في الحياة الآخرة منذرا من هول الإنكار و التكذيب والدافعة إلى تمني الإنسان بعد ما شاهده من أهوال القيامة وجهنم أن يكون شيئا منسيا لا يرجو حسابا خوفا من أن يكون في زمرة المشككين في النبأ العظيم، فالفرصة مازالت سانحة لمن أراد و رغب في الفوز بالنعيم المشاهد سلفا والنجاة من الحجيم المرئي خلفًا لأصحاب الإنكار والتكذيب.

فالنظم القرآني الفريد وصوره المباركة هي الدافعة لشبهة التكرار في النص المبارك؛ من خلال التقابل بين الصور القرآنية بين حال المؤيدين والمعارضين الناتجة من العبارات الوجيزة التي تحمل معاني كثيرة تهز الكيان وتدفع إلى تصديق الجنان بكل ما ورد في الكتاب المبين ومؤكد على أن الصور المتلاحقة بين حال المصدقين والمكذبين تفصيلا لنتيجة الإنكار والوعيد المنتظر المبتدء بقوله تعالى: (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون) نافية لتكرار المعنى، والله أعلى وأعلم.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط