الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تركيا من تصفير إلى تصدير مشاكل


حاول الكثير من المسؤولين الأتراك على مرّ تاريخها أن يخرجوها من حالة التأزم المحلي والإقليمي والدولي وفعلوا كل ما لديهم في أن يبيّضوا وجه دولتهم المتشكلة أساسًا على إنكار الآخر واقصائه وتهميشه وحتى القضاء عليه، وأن كل محاولاتهم لم تصل لهدفها النهائي بالرغم من نجاحها حينًا وفشلها في الكثير من الأوقات. 

منذ تشكيل الدولة التركية في عشرينيات القرن المنصرم على أنقاض الظاهرة العثمانية التي دامت أربعة قرون ونيّف حتى أصابها الوهن والمرض نتيجة المؤامرات التي كانت تحاك ضمن القصور السلطانية وخاصة في زاوية الحرملك، وإلى الآن ما زالت نفس المؤامرات مستمرة وإن كانت لأهداف أو بوسائل متغيرة.

من حالات مقتل السلاطين وتعيين الأبناء إلى قتل الأبناء والأخوة والمقربين من أجل الحفاظ على هيبة السلطان على أنه ظل الله على الأرض وعلى الجميع تقديم شرائع الطاعة العمياء للسلطان. 

هذه هي الحالة التي كانت سائدة في التاريخ العثماني وما زالت مستمرة حتى راهننا. فما الانقلابات الأربع التي حصلت في تاريخ تركيا إلا دليل على استمرارية نفس العقلية العثمانية بدءًا من انقلاب 61 و70 و82 والأخير في 2016، حيث تحت مسمى حماية هيبة الدولة والسلطان أو الرئيس بعد الحكم الجمهوري الشكلي استمرت عقلية المؤامرات العثمانية داخل قصور السلطان أو في الامارات التابعة للسلطنة العثمانية على امتداد جغرافيتها.

في وقتنا الحاضر حينما نرى ما حصل ويحصل في تركيا وخاصة بعد الانقلاب الأخير المثير للشك والريبة في تدبيره والنتيجة الذي وصل إليه، وعمليات الاعتقال وتصفية الأقرباء الذين باتوا من الخصوم الأفرقاء وكذلك القضاء على أي بصيص أمل في ترتيب البيت الداخلي العرقي والاثني والمذهبي. 

كل ذلك أصبح في خبر كان من أجل الوصول إلى الحكم الرئاسي وتثبيت سيطرة الاسلام السياسي والقوموية على مجمل المشهد التركي.

التحول من النظام الجمهوري الذي تم الإعلان عنه على أنقاض الخلافة العثمانية إلى النظام الرئاسي الذي يحاول أردوغان الوصول إليه يعتبر الخطوة الأولى نحو دكتاتورية وفاشية الشخص الواحد والعلم الواحد واللغة الواحدة.

التحول إلى النظام الرئاسي في تركيا يعني فيما يعنيه أن الكلمة الفصل ستكون للرئيس أو الخليفة العثماني بعد أن يتم تقليص مسؤوليات رئيس الحكومة مجلس النواب وحتى القضاء. 

أي أنه يحق للرئيس أردوغان أن يعين ويطرد من يشاء ويحل البرلمان ويعين من يريد على شاكلته في القضاء. وبذلك نكون أمام تكرار للتاريخ غير البعيد لما حصل في ايطاليا أيام فاشيتها وألمانيا أثناء نازيتها في عدم قبول الآخر والقيام بكل شيء من أجل إقصائه والقضاء عليه والاعتماد على تشكيل مجتمع نمطي يشبه الخليفة والتطبع بشكله وعاداته وملبسه وأكله طبعًا مع تقديم واجب طاعة المريد للشيخ والوصول بالشعوب التي تقطن تركيا إلى مجتمع نمطي ومجتمع قطيع ليس له إرادة سوى السير خلف الراعي ولا يُطلب منه إلا أن يستهلك الحياة الافتراضية التي ينسجها الخليفة الشيخ السلطاني العثمان تركي أدام الله سره وقدسه.

طبعًا، لن يكتفي اردوغان بتنميط الداخل وجعلهم دمى يضحكون متى ضحك الحاكم ويلطمون حينما يكون الحاكم حزين، بل سيعمل اردوغان على نشر هذه الحالة في دول المحيط إن كان في سوريا أو العراق أو الشمال افريقي. حاول بذلك واستغل حالة الغضب الشعبي حينما هبَّ من أجل البحث عن كرامته في ثورة تحولت إلى جمع الثروة لبعض سماسرة الحروب والتي أراد أن يستفيد منها أردوغان. فراح يوزع مواعظه هنا وهناك في كيفية معاملة الشعوب وتوزيع صكوك الغفران على من اتبعه وفرمان الموت والقتل على من لم يقبل بتقديم الطاعة له ويخالفه الرأي.

حينما بدأت الثورات الشعبية باحثة عن كرامتها وحريتها المجتمعية التي افتقدتها على مر السنوات على يد الأنظمة السياسية التي كانت تستميت من أجل إرضاء الدول الغربية، قامت تركيا بجعل نفسها الطرف الذي يجب على الشعوب والثورات الاقتداء بها على أنها المثال المحتذى والنموذج الأفضل لتقليده بشكل أعمى للوصول للحرية. وتدخلت بشكل سافر في مصر وعملت على دعم الاخوان المسلمين بكل شيء من أجل ايصالهم إلى سدة الحكم وأرادت من ذلك ربط مصر بنفسها سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعملت على دعم الاخوان المسلمين من كافة النواحي كي تضمن سطوة نفوذها في مصر وبذلك ستضمن سيطرتها على كل المنطقة لمِا لمصر من مكانة سياسية واجتماعية وحتى معنوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

لكن بعد قرار الشعب بعد قبوله لحكم الإخوان الذين دائمًا يتظاهرون بالمظلومية وأن الشعب المصري صاحب الحضارة التاريخية الممتدة آلاف السنين لا يقبل أن يكون تابع لدولة لا تمتلك من التاريخ والحضارة سوى وجهها المظلم المخضب بالدماء والقتل وإقصاء الآخر. 

انتصر الشعب المصري لذاته وراح يلفظ ويتقيء الطْعْم الذي أرادوا أن يحقنوه به تحت مسميات شتى، وهذا ما يجعلنا ندرك جيدًا سبب عِداء أردوغان لمصر وشعبها ونظامها، والسبب هو بديهي جدًا لأن كافة أحلامه تحطمت على صخرة التاريخ المصري وتلاشت وغرقت في فيضان وطوفان حضارة النيل.

كذلك حاول أردوغان أن ينشر نظامه في تونس وليبيا والعراق وسوريا وكل المناطق والبلدان في المنطقة وأن يجعل من نفسه المخلص الذي تنتظره الشعوب المقهورة على أعتاب الجنّة التركية التي ما هي في حقيقة الأمر ليست سوى جهنّم المؤامرات ونار التقليد الأعمى لزمن ولّى ولن يعود. 

هذا ما أراد أن يحققه أردوغان اقليميًا بالرغم من كافة مسرحياته الخطابية الاعلامية حول تحرير القدس وكسر الحصار عن غزة وأنه سيصلي في الأموي وأنّ لديه خطوط حمراء ولا يمكن لأحد تجاوزها، وكل ذلك لدغدغة عواطف العامة من الناس وحتى البعض ممن نصّب نفسه ممثل عن ثورات الشعوب وراح يقدم واجب الطاعة عند خليفة المسلمين اردوغان في نظره فقط طبعا وذلك حسب المال والدولارات الممنوحة له.

فشل أردوغان اقليميًا ودوليًا وحتى محليًا في تصفير المشاكل حتى أوصل بتركيا إلى حالة من تصدير المشاكل إلى بلدان الجوار وذلك تارة بالتهديد وتارة أخرى بالترغيب. فبعد اعتقال الالاف من الأتراك بحجة تعاونهم في عملية الانقلاب الأخيرة، وكذلك اعتقال الالاف من الكرد بحجة دعمهم للإرهاب وزجهم في السجون وخاصة النواب الكرد من حزب الشعوب الديمقراطية وكذلك رؤساء البلديات الذين تم انتخابهم وتعيين بدلًا عنهم اشخاص من الأمن التركي التابع والموالي لشخص أردوغان بحد ذاته وأيضًا إغلاق العشرات من وسائل الإعلام واعتقال الإعلاميين بحجج كثيرة، وتشديد الرقابة على العلويين ومنعهم من القيام بشعائرهم الدينية وكذلك التضييق على المسيحيين في عقائدهم ووضع اليد على بعض الكنائس، كل ذلك زاد من حالة الاحتقان الداخلي في تركيا.

التدخل التركي في العراق وسوريا ومصر وليبيا والكثير من المناطق وتهديد اوروبا بمزيد من موجات اللاجئين، كل ذلك ليس إلا تصدير للمشاكل الداخلية التي تعصف باردوغان وحكومته وسياسته الخاطئة وتأثيرها على الاقتصاد وتهاويه إلى أدنى درجاته.

تحول تركيا من تصفير إلى تصدير مشاكل تعتبر حالة طبيعية للحالة المرضية التي أصابت اردوغان في مرض العظمة والتداعيات والأعراض الجانبية لهذا المرض بدأ ينتشر على الجغرافيا التركية بشكل حمى التحول الرئاسي وبثور الخطابات الديماغوجية للنموذج التركي وسعال التفجيرات التي تحدث في تركيا وقيح التهديدات والوعيد لهذا أو ذاك الطرف إن لم يستمعوا لنصائحه.

تصدير المشاكل الداخلية لن يحل المشاكل التي تعانيها تركيا بل ستزيدها عزلة وستلعب بها القوى الاقليمية والدولية وذلك في زجها في المستنقع السوري والاقتتال الداخلي مع الشعب الكردي الذي يسعى للقضاء على هذا المرض الاردوغاني العثماني وتحقيق حقوقهم المشروعة في نيل الحرية ودمقرطة تركيا بعد إدخالها غرفة الانعاش المركزة واستئصال الاورام الخبيثة المعششة في العقلية التركية الأردوغانية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط