الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد سعيد العوضي يكتب : صدفة تنكئ جرحًا

صدى البلد

" شكلهم مش من البلد دول " ثم اتُّبِعت تلك الجملة بصوتٍ خافتٍ لنقاشٍ يدور بين امرأتين لا يتبين تفاصيله إلا مدققٌ يجلس بالجوار ثم عاد نفس الصوت بجملة جهورية " انتوا من البلد يا بنتى انتى وهو ؟ " ..

أصابت الجملتان السابقتان مسمعى بينما كنت أجلس فى حجرتى التى تطل على أحد الشوارع العامرة بالأصوات المختلفة فى بلدتنا ، أطفال يلعبون ، ورجال يتحدثون أثناء مرورهم ، وأصوات أخرى خافتة تجتمع لتُكوٌّن صوتًا لا تستطيع أن تميزه لكن تلاحظ أثر غيابه فى حالة انقطاع التيار الكهربائى ، لكن المختلف فى تلكما الجملتين عن غيرهما أنهما صدرتا من فم جارتنا " مسعودة " التى تجلس أمام مدخل بيتها طوال اليوم مع بنتها لترصدا بعيونهما كل ما يدور فى الشارع ، تستطيع أن تقول أنهما تعملان كمخابراتٍ سرية فى شارعنا ، فلا يكاد يمر عليهما شيء إلا وعرفتا تفاصيله كلها .

فتحت نافذة غرفتى لأتبين ما رأته فجعلها تتلفظ بهاتين الجملتين فى اندهاش ، فإذا بى أجد طفلا فى الخامسة من عمره متشبثًا فى ثوب أخته التى يبدو عليها أكملت العقد الأول من عمرها يجلسان على جانب من الطريق فى انكماشٍ كما لو كانا فى مشهد تصويرى يجسد مقتل الطفل الفلسطينى محمد الدرة _ رحمه الله _ فبرغم صغر سن تلك الفتاة لكن يكفيك أن تنظر إلى التصاق أخيها بها لتتبين أنها له الأب والأم والأخ وكل شيء .

يكفيك أن تنظر إلى عيونهما لترى ما فيها من كل معانى الأسى والحزن ، يرسلان بنظراتهما رسالة لذاك العالم القبيح الذى تجرد من كل معانى الإنسانية و الرحمة بأنهما بريئان من ذنوب اقترفها غيرهم ليُحرَما من حقوق العطف كغيرها من الأطفال ..

هما فقط طفلان بأعمارهما لكن همومهما كما الجبال لا يقواها رجل عتيد ، بل إن هيئتهما لا تسمح لأى عاقل يراهما فيطلق عليهما لفظة " أطفال " ، ملابس بالية ، وجوه شاحبة ، عيون شاردة كالهائم لا يعرف هويته، أجساد واهنة ، وإن صح القول فهى ليست أجسادا بل هى عظام صغيرة مطلية بالجلد يغطيها طبقة من التراب ، ينظرون إلىّ فى صمت عميق , نظراتهما وحدها كفيلة أن تبعث إلىّ شعور الذنب والحسرة كما لو كنت أبًا لا يعترى جنبات قلبه القليل من الحنان قسى على طفليه فى مساء شتاءٍ قارسٍ وطردهما من البيت .

خرجتُ من بيتى ودنوت إليهما لأعرف ما قصتهما ، سألت الفتاة " انتى منين ياماما ؟ " فكان لردها وقع الصاعقة ، إجابتها كانت كلمتين مجملتين يفصلها الكثير من معانى الخزى والعار لتصفنى أنا ومعشر الكثير من المسلمين .. أجابت " من سوريا " ، إذًا هما من تلك البلاد التى أصبح ضحاياها فوق نصف المليون قتيل حتى الآن وأكثر من 7 ملايين مشرد فى شتى بلاد الأرض من بينهما طفلان نقلتهما الأقدار أمام نافذة حجرتى ، لا يبكيان على فراق أبٍ أو أمٍ ، لا يشتكيان ، لا يصرخان ، فقط فى صمت عارم ..

طلبت منهما أن يدخلا إلى بيتى فرفضا ، أحضرت إليهما بما استطعت من طعام و لكن كان لهما نصيب كبير من الخجل وعزة النفس ، رفضا أن يأكلا إلا بعد إلحاحٍ كبير ، حتى إذا فرغا من طعامهما وشربا القليل من الماء فصمما على الرحيل .. يرفضان أى مساعدة .. لا يدخلان أى بيت .. يتحركان ببطء كالسلحفاة .. العيون كلها تترصد إليهما .. يذهبان إلى حيث تأخذهما أقدامهما .. لايعلمان هويتهما .. و مازالا صامتين ، لا يشتكيان ، لا يصرخان ، يذهبان إلى حياة لا يعلم مصيرها إلى الله ..

أراقب حركتهما صامتًا مثليهما ، لا أعلم بأى ذنبٍ تقتل أحلامهما ، لا أعلم ما عساى أن أفعل لو كنت مثلهما ، لا أعلم ماذا سنقول أمام الله عندما يسألنا عن هذين الطفلين و المشردين أمثالهم من أبناء المسلمين.

ما أعلمه فقط هو أننا مجرد أشباه رجال ومازال بيننا أطفال كهذين ..
طفلان أرادا الحياة فى أمّةٍ حياتها موت ..
طبتم بما صبرتم ، فنعم عقبى الدار.