الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

زمن المتسولين


على نفس طريقة الزعيم عادل إمام فى فيلم المتسول كانت كلماته وأسراره التى لم يبح بها لأحد إلا سواى ، فعلى الرغم من أننى أعرفه منذ زمن إلا أننى فوجئت بما قاله لى.

ففى يوم من أيام الله المباركة وكعادتنا نلتقى كل فترة فى تقليد اتبعناه منذ التقائنا الأول الذى كان مصادفة فى إحدى الأمسيات الثقافية حيث عرف نفسه بالصحفى فلان وانا عرفت نفسى بما انا عليه ومن حين لآخر نلتقى وفى المعظم كان اللقاء مصادفة أمام محطة مصر ولم أسأل نفسى طوال هذه الفترة التى امتدت لأكثر من عشر سنوات لماذا نفس المكان مهما تباعدت الرؤيا .

واليوم طلب أن يرانى بإلحاح غريب لم أعهده منه فقد اعتدت أن ألتقيه بناء على طلبى وفى احيان كثيرة لتبادل وجهات النظر فى حدث يفرض نفسه على الساحة وكنت عندما أسأله عقب ردوده المقنعة العاقلة لماذا لا أقرأ لك اية مقالات فى اى موقع او جريدة كان رده بانه يسعد بتخريج أجيال على دراية بالعمل الصحفى أكثر من الاهتمام بان يكون اسمه مذيلا تحت اية مقالات او تصريحات.

..اليوم طلبنى والح فى ان التقيه ولم ارفض لأننى أعتبره صديق نقى لم يظهر على مدى سنين تعارفنا آية تصرفات مغايرة لما تعارفنا عليه ..لم اتاخر عليه لانه حينما طلبنى كنت قريبة من مكان تواجده وعندما سلمت عليه شعرت بانه ليس كما اعتدته فقد ظهرت بوادر قلق على ملامحه وأيضا مضطربا بطريقة لم أعهدها معه أبدا جلست وطلبت قهوة وشربتها وفتحت معه الحديث عن موضوع كان يجيد تفنيده وتحليله وهو الإرهاب والدول الراعية له والممولة والمستفيدة ولم يستقبل كلامى بنفس درجة الاهتمام المعتادة بل قال لى بكل هدوء أنا زاهد فى الحديث عن اى شىء سوى نفسى.

ولوهلة تخيلت أنه يلمع نفسه كى يدخل حياة جديدة فابتسمت وقلت له خلاص ناوى تدخل دنيا؟ فابتسم ابتسامة باهتة حزينة وقال مختتمها بل أريد أن أنفض عن نفسى البقايا العالقة من الدنيا ، وسألنى هل تعرفينى جيدا ؟وقبل ان اجيب استكمل تساؤلاته وقال يعنى انتى عارفه انا مين ؟ولم ارد فقال لى انا تعبت من اللى أنا فيه وعايز اتكلم واطلع اللى جوايا ولأول مرة أرى رجل يبكى وتنزل دموعه بهذه الطريقة وقال ..انا لست من تعرفيه انا شاب مات منذ مجيئه الى القاهرة من ربع قرن اويزيد انا عندما وصلت إلى المحروسة كان الهدف ان التقى باحد اقاربى كى يعرفنى على رجل ابهة زى مبيقولوا يشغلنى وذهبت الى قريبى الذى اخذنى إلى صاحب العصمة الذى بدوره لم يرحب بى وعليه فقد وعدنى قريبى بان يبحث لى عن مكان اعمل فيه وبما اننى كنت أمل عائلتى الذى استثمرت فيه كل مالديها حتى اكمل تعليمه العالى واصبحت تنتظر ان يعوضها ويمنحها الخير كله فلم اعد الى بلدتى وعندما ذهبت الى محطة مصر كى أعود توفقت امامها حزينا وتحدثت بصوت عالى وبكيت وانا اقول متزعلش ياابويا ولاانتى ياامى ولا اخواتى الخمسة انا هااعوضكم عن اللى راح منكم ..هذه الجملة كانت كفيلة بان تجعل كل من يعبر امامى الطريق بان يضع فى يدى عملة ايا كانت قيمتها وانتهى اليوم ومعى من الأموال ماان يعجز ابى القروى الطيب ان يجمعه اذا عمل فى حقول عشرة من اثرياء بلدتنا التى تحتضن أحد جبال الصعيد ولا تتخيلى سعادتى بهذه الأموال .

وعلى الفور استأجرت مكانا لاعيش فيه ويوما بعد يوم وبنفس طريقة عزيز قوم ذل اعيش وتنهمر على الاموال واصبح غنيا فى وقت وجيز واعود الى أهلى واغدق عليهم واطمئنهم على عملى وباننى اصبحت ذو شأن يقترب من شأن عمدة بلدتنا الصغيرة الفقيرة وكلما مضت بى السنون ازددت غنا ولايصدق أحد أبدا عندما يرانى باننى متسولا فقد كنت أحرص على أن اكون منمقا فى ملبسى وكلامى وادعى بان الظروف هى التى حكمت على بذلك الوضع وكان الكل يصدقنى ويتعاطف معى.

وللزوم الوجاهة اكملت مظهرى وادعيت لكى ولغيرك باننى صحفى ولم يبحث أحد ورائي وتزوجت وانجبت ومضت بى الدنيا وانا غير اسف على شيء حتى وقت قريب يوم سافرت الى زوجتى وأبنائى وصارحونى بأنهم يريدون أن ينتقلوا معى الى مصر كما نسميها فى بلدنا وبالطبع رفضت ذلك وعدت وانا اريد ان اعرف ماذا يدور بداخلى وهل انا اسف على مافعلت ووجدتنى مضطربا ولااستطيع ان اتخذ قرارا.

ومع ذلك ولأننى خائف من افتضاح امرى أمام أبنائي فقد قمت بافتتاح شركة واصبحت رئيسها واتممت واجهة اجتماعية وتحت إلحاح أسرتى بان نعيش معا رضخت والتم شملنا والمشكلة الآن فى اننى فشلت فى ان اترك مهنة التسول وفشلت فشلا ذريعا بان اصبح كما تريد اسرتى واصبحت ممزقا بينهم وبين نفسى التى تجد سعادتها فى التسول على هذه الطريقة فأنا بارع فى استعطاف الناس وماهر فى استقطاب مشاعرهم وجعلهم يدفعون ببذخ ورضا ، ولا تستطيعى ان تصفى سعادتى اثناء ساعات عملى فأنا أشعر وكأننى نجم سينمائي محترف وباننى حالة منفردة فى عالم متشابه متجانس انا الوحيد المميز فيه ، ولاتقولى لى إننى مريض وبحاجة لعلاج نفسى فقد ذهبت ولم تنفع معى اية استشارات نفسية او جرعات علاجية فعلاجى فى مرضى.

وتوقف وهو يبكى وينظر لى ويقول مادمت لا أؤذى أيا ومادام من يعطينى يعطينى راضيا فلماذا لا أكمل مشوارى ولماذا الخوف من اكتشاف امرى؟ ويبدو انه لاينتظر إجابة ولا يريد حل فقد علم انه يعيش وسط مجتمع الكل فيه متسولا على طريقته ولذا فقد اكتفيت بان ادفع ثمن قهوتى وخيبتى وعدت من حيث جئت.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط