الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

سر الحياة.. وأنواع الموت


ربما لأول مرة يسمع القارئ هنا عن شىء اسمه "سر الحياة" الذي يبقى في الجثث بعد الموت، فما هو هذا السر، وكم هو مفيد للأحياء من بعده ؟.. وربما لأول مرة أيضا، يعرف القارئ أن للموت أنواع.

للموت ثلاثة أنواع: موت سريري وموت نهائي وموت خلوي.. في الموت السريري يفقد الإنسان دوره في الحياة ويدخل في غيبوبة، إلا أنه يظل يتنفس وقلبه يدق وخلاياه تعمل، ويقال عنه أنه "ما يزال حيا".. ذلك الموت السريري قد يمتد أياما وشهورا أو ربما أعواما، مما حدا ببعض الدول لسن تشريع "قتل الرحمة" بوقف إمداد المحاليل المغذية والأوكسيجين لهذه الحالات، وتبريرهم أنه لا فائدة من ضخ غذاء فيه وإضاعة الوقت والجهد معه.. إلا أن أغلب الثقافات والمعتقدات ومنها الإسلامية ترفض ذلك ولا تعترف إلا بنوع واحد من الموت هو الموت النهائي، على اعتبار أن الروح مازالت موجودة في الجسم، وقد عادت طفلة أمريكية من غيبوبة دامت أربع سنوات، وصحى أمريكي آخر من غيبوبة دامت تسعة عشر عاما، ويبقى احتمال الصحوة وارد مهما طال الزمن.. لأن الروح لم تخرج والغيبوبة لا تعتبر موتا، بمعنى أن الميت سريريا فقد عقله وقلبه "الحقيقي" ونفسه، لكن لم تخرج روحه.

أما في الموت النهائي أو موت جذع المخ، فيتوقف كل شىء: لا نبض ولا تنفس، مع انخفاض حرارة الجسم وعدم استجابته لأي إثارة.. إذا توقف كل شىء وبرد الجسم، فقد "مات" المخ ومات جذع المخ وخرجت الروح، ويكون الشخص قد مات موتا حقيقيا ونهائيا بإجماع الأطباء والفقهاء.. بعدها، يغادر الدنيا ويدفن ويختلط جسده بتراب الأرض.. وقد أجاد شاعر حين وصف الموت على خلفية صوفية بأنه "كأس وكل الناس تشربه"، وأجاد آخر عندما لخص الطب كله في شطر واحد يقول "تعددت الأسباب والموت واحد".

بعد أن يتأكد الطبيب أو المقربون من الشخص أن الموت نهائي تدفن الجثة، ومن الغريب أن الروح عندما تخرج لا تلغي ولا تأخذ معها سر الحياة من الجسم كله.. سر الحياة شىء آخر يختلف عن الروح، يتواجد في كل أجزاء وخلايا الجسم بعد الموت مباشرة وبواسطته يمكن نقل جميع أنسجته وأعضائه لأي شخص يحتاج إليها شرط أن يتطابق معها نسيجيا (أو مناعيا)، ويجب نقلها بسرعة أو يتم تجميدها وحفظها قبل أن تتعفن ويضيع منها هذا السر العجيب.. الأعضاء المنقولة والأطراف المبتورة تفقد إتصالها بصاحبها وبروحه، لكنها تحتفظ بسر الحياة الذي بواسطته يمكن الاستفادة منها بزرعها في شخص آخر، فتلتصق به وتقوم بنفس وظيفتها السابقة عنده، شرط نقلها له بسرعه كما ذكرنا، وتلك معجزة من معجزات الخلق ونعمة كبرى من نعمه الله على الإنسان.

الخلايا التي بقيت "حية" بعد موت صاحبها ليس بها أرواح، لكن بها سر الحياة يمكنها أن تبقى حية في مزارع لسنين، والأعضاء المزروعة تستمر في خدمة سيدها الجديد بينما جسد سيدها الأصلي مختلط بتراب الأرض، هذا السر موجود في الحيوانات المنوية والكائنات البدائية وأيضا في الخلايا الجذعية التي ذاع صيتها مؤخرا والتي هي خلايا بدائية مولدة أو "أم" يكثر وجودها في الأجنة وفي أماكن معينة من الجسم البالغ. بتحفيز هذه الخلايا، تتخصص وتعطي خلايا من أي نوع، ويستخدمها العلماء في تعويض خلايا فشلت أو ماتت في كثير من الأمراض... لكن كيف تموت الخلايا المنفردة وتتعفن وتفقد سر حياتها بشكل عام؟ موت الخلية هنا، يحدث بتعادل الجهد الكهربي للخلية على جانبي جدارها ليصبح صفرا، وتوقف حمضها النووي عن إعطاء الأوامر لتدخل مرحلة التفسخ، وهذا هو النوع الثالث من الموت، "الموت الخلوي" الذي يحدث في خلايا الميت بعد دفنه أو في الأجزاء المنقولة منه، ويحدث أيضا في أجسام الأحياء كغرغرينا الأمعاء والقدم السكري، وفي كل الأحياء الدقيقة السائبة كالبكتيريا وغيرها.

مما تقدم، يتضح لنا الفرق بين الموت وسر الحياة، وكثيرا ما يخلط الناس بينهما.. الروح من أمر الله وتغادر عند موت صاحبها، أما سر الحياة فيبقى لفترة وجيزة في كل خلية من خلايا الميت بعد الوفاة وسببه نشاط حمضها النووي، ويزول هذا السر بتوقف ذلك الحمض عن العمل.. ومن هنا أيضا نفهم مغزى الحديث النبوي الشريف الذي ورد فيه "إن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه"، لأن سر الحياة يستمر في خلايا جسده لعدة أيام بعد دفنه كما ذكرنا، وأكثر ما تكون في اللحظات الأولى بعد الدفن، فتشعر خلاياه بالذبذبات وباهتزاز الآرض، لكن بعد مرور أسبوع أو عشرة أيام، لن تكون فيه خلية واحدة حية، ولن يسمع بعدها قرع نعال أحد.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط