الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لبنى إبراهيم تكتب : المقهى قصة عشق لا تنتهي

صدى البلد

اختلف الأمر منذ البداية عندما خلت أن الإطار العام لماهية هذا المكان لا يتعدى طاولة صغيرة وكرسيا وفنجانا متواضعا من القهوة اللذيذة، برائحة "البن "الذكية، يحتسيه الوافد على هذا أو ذاك المكان المتواضع التجهيزات. وأحيانا يتطلب الأمر وجود شخص إلى جانب الآخر ليتجاذبا أطراف الحديث والضحكات والهمسات والآهات وما شابه ذلك من مشاعر مختلفة ومتناقضة..

نعم الأحاديث التي لا تحلو ولا يستمتع راويها إلا إذا جالس أحدهم في زاوية من زوايا المقهى. ولقد تعددت وظيفة هذا المكان-الذي ارتبط وجوده بوجود الإنسان منذ الأزل -من مجرد مخفف للضمإ، ووسيلة لاعتدال المزاج ، إلى مكان يتيح للجميع الفرصة لتلبية رغباتهم.

فالشاعر الملهم يتجه نحو المقهى رغبة منه في تنشيط ذاكرته بما يدفع قلمه إلي التحبير في موضوع ما استمال خواطره، فيدقق في اختيار الركن المناسب ، ولا ينفك يعتدل في جلسته ، ويتزود بالحبر والورق ، ويطلب من النادل "فنجان القهوة "السحري بطعم الإلهام الشعري ، ويظل ينظر من فتحات النافذة عن هذا وذاك لربما يهل عليه أحد المارة بشيء من الفكر.

أما عن الطبقة الأرستقراطية فإن المقهى ليس بالشيء المغري الذي يوحي لها بالتحضر والتمدن لأن هذه الأماكن في سائد اعتقاداتها هي مخصصة لعامة الشعب وبالأخص الفئة الضعيفة المضمحلة وفيها ترى أنها ربما تفقد بريق الدنانير التي تغزو جيوبها الفضفاضة. وإن تمت المراوغة مع الإتيكيت فإن هؤلاء الأثرياء يقصدون المقاهي للهو والسمر وأحيانا يتبع هذا العبث اقتناء بعض من النبيذ، أو لعب الورق، وأحيانا الشطرنج أو ماشابه ذلك دون تقليل من شأنهم أو رتبهم المرفهة.

لقد تطورت هذه المقاهي من حيث البنية التحتية التي أصبحت تتعدى الحارة لتنتصب في قلب المركز أو حذو البحر أو في موقع إستراتيجي، وأصبح اختيار الموقع أشبه بالدقة في اختيار الزوج شريكة حياته المتيمة ، إذ أن هذا الموقع الجغرافي لتأسيس "المقهى" هو العامل المؤثر في استقطاب المترددين عليها والذي من شأنه أن يطغي على المكان رونقا مستنظرا .

كما تطورت آليات تصميم وبناء المقاهي تطورا جذريا من حيث الشكل والمضمون فلم تعد تلك الجدران المتداعية والتجهيزات البسيطة تغزو الإطار العام للمقهى ولكن أصبحت لها توسعات حدودية ومشاركات اسمية ، وانتشرت لها مسميات عدة كالمقهى المطعم ،مقهى الألعاب ، مقهى الكتاب...ورغم هذا التحديث فإن القاسم المشترك يظل واحدا وهو أن المقهى نقطة التقاء كل الفئات العمرية.

لكن للشباب شأن آخر في اختيار المقاهي فهناك من يجذب فتاته الساذجة ببعض العبارات المعسولة ويستدرجها إلى هنالك تحت دعوى الغرام وبداية رحلة المشاعر الرومانسية ،ويظل يغازلها بعدد الأكواب المنهالة عليه ، بينما تستمتع بذلك جليسته وهي تهيم في كلامه بين الخفر حينا والدلال حينا آخر.

هذا بالنسبة لفئة المتسلين بالمشاعر والعابثين بقلوب العذارى ، لكن بالنسبة للفئة المهمشة في المجتمع والتي يطلق عليها المشتبه بهم فإن المقهى في نظرهم نقطة الالتقاء للتخطيط لما يجول في خواطرهم من ألم الجريمة النكراء ، فيتخذ هؤلاء من الإطار ذاته مكانا لإدارة مشروعاتهم الخبيثة التي حتما تلحق الضرر بالفرد والمجتمع على حد سواء كصفقات السموم أو التربص بالقتل أو الإثم للنفس البشرية وهو ما يسيء لسمعة المقهى ككل.

واليوم أيضا نتحدث عن مقهى السيدات والذي تطغى عليه سمة الأنوثة الصارخة وتنبعث منه نسمات الحرية بروائح أجمل وأنقى خلاصات العطور الباريسية المثيرة الأخاذة ، فللسيدات نظرة خاصة للمقهى فأحيانا الجلوس هنالك هو فسحة ممتعة بالنسبة لهن وتحرر من الأغلال الزوجية المكبلة، وأحيانا أخرى هو انطلاقة جديدة لحياة أفضل ورؤية مختلفة لكسر الروتين اليومي الذي يشعرن به جراء الممارسات اليومية للشئون المنزلية، فهن في ذلك راغبات في مغازلة عقولهن بفناجين القهوة بمختلف نكهاتها والاستمتاع بمذاق الشاي الذي لا يشعرن به مع أزواجهن وفي بيوتهن ، هل هو سحر وجمال المكان أم هو مذاق مختلف بطعم التحرر النفسي ؟؟

لكن ومهما اختلفت المفاهيم في وصف "المقهى "فإنها تبقى عاملا أساسيا من عوامل التواصل الاجتماعي في حياة الإنسان بتنوع أجناسه وبمختلف فئاته العمرية ، وإن تنامت وازدهرت التكنولوجيا وتنوعت مواقع ووسائل التواصل بين البشر فإن" المقهى" لا يزال نقطة استقطاب للجماهير على اختلاف شرائحهم الاجتماعية فإن لم يكن لك فيها نصيب اليوم فإن الغد حتما سيحجز لك كرسيا وفنجانا.
 
حقا لقد تطور مفهوم المقهى من مجرد مكان لتبادل الأحاديث ، وشرب القهوة أو الشاي وتناول النارجيلة ومشاهدة المباراة الرياضية...إلى ماهو أعمق وأشمل فقد أصبح المقهى عبارة عن مؤسسة اجتماعية وفكرية تجمع كل فئات المجتمع على اختلاف رتبهم وقدراتهم الفكرية ، وهو مايشير إلى أهمية هذا العالم الصغير الذي يعكس مظاهر الاحتفاء اليومي للإنسان بتلبية رغباته البسيطة وتبادل الثقافات.