الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الخطاب الدعوي ما بين الشفهية و الكتابية


جاء العقد الثاني من القرن العشرين وتقلباته الأيديولوجيا راصدا لحركة تأريخية للصراع القائم بين الخطاب الشفهي و الخطاب المكتوب ، و مبرهنا لانتصار الأول على غريمه في ظلال التأرجح ما بين الإقناع و الإمتاع في بيئة سادت فيها لغة المصلحة الساعية إلى تحقيق الأنا .

 و قد تتالت المشاهد و تتابعت المرائي المؤكدة على ذلك ، آخرها ما جاء مجسدا للأصوات و العقول المفكرة التي ثارت حول الآثار المؤسفة التي نالت النسيج الوطني بمصر في الآونة الأخيرة و التي اتجهت صوب عجز المؤسسات الدعوية عن المناداة إلى مفاهيم صحيحة لمراد الدين لرأب الصدع الذي أصاب فكر الشباب المضلل المستخدم وقودا للإرهاب و المؤسسات الهادمة ، و على الرغم من انحياز هذه المؤسسات الدعوية إلى المصادر الأصلية و الصحيحة لبيان مراد الدين الإسلامي إلا أنها جانبها التوفيق و تمام النجاح، و إن كنت متفقا مع حتمية الاستعانة بمصادرنا الدينية و تراثنا الثقافي.

 إلا أن الآلية المستخدمة في التواصل مع الجمهور جانبها الصواب وانحازت إلى التقليد دون التدبير و التدقيق ، فكل المحاولات الدعوية المستعملة في الإقناع أو التبيان اعتمدت على النقول المكتوبة و تجنبت الخطاب الشفهي ، و البون شاسع بين الخطابين في آلياتهما و مقصدهما .

إن تغافل تثمين الخطاب الشفهي آلية للخطاب الدعوي في آن أخاله علة تيه الفكر المشوش للشباب و مطية الإخفاق في استمالة العقول المضللة للأوبة إلى الصواب.

إن الاعتماد على الشفهية خطابا إرشاديا توجيهيا لم يكن دربا من دروب البدعة من الأمر بل تجربة نهجها العديد من الدول لمعالجة بعض التوجهات السسيولوجية بالتوازي مع مفردات المحيط الاجتماعي المعايش ، ذلك لأن الخطاب الشفهي تتقاطع فيه الثقافة العامية مع الثقافته العالمية أو المكتسبة للفرد ذاته ، و تحرك المكون الثقافي الغالب و المسيطر على التوجهات الشخصية بعد تحررها من كل مكتسب و غير رصين ، فضلا عن كون الخطاب الشفهي هو اللغة المعتمدة بين العاطلين و المهمشين و من تسودوا في قطاعات الجماعات الإرهابية أو المتطرفة و الذين لم يكن لهم محل من الإعراب في الثقافة الكتابية .

فالخطاب الشفهي و آلياته ( الإقناعية – الإمتاعية ) الأقدر على مخاطبة المكنون الثقافي للبيئة المعاشة و الأفراد المستعملين في العمليات الإرهابية ، و الأقدر على الإقناع و الأولى بالاستعمال؛ لأنه يطرح الخطاب الديني بصورة معاشة لا بنمط تقليدي خُطب به أناس و بيئات و مناسبات فانية يختلف في ثقافته و بيئته مع ما هو آن ؛ مخالفا لما اعتمدت عليه الفترة الفائتة من دعوات وخطب جاءت آلياتها مرتكزة على الخطاب المكتوب.

لاشك أن الجهود الدعوية في الآونة الأخيرة بذلت الجهد العظيم و نقبت في تراثنا التليد الذي لا نكون إلا به ، لكن الجهد جاء تقليدا و أهدافه للعناصر المقصودة - الشباب - أتت وكأنها نتائج ساذجة تقترب إلى المعتاد و المعروف الذي لا يحتاج إلى مرشد أو دليل لتبيانه وتوضيحه ، و العلة أخالها كائنة في الاعتماد على الثقافة الكتابية في الخطابات الدعوية و الإرشادية ؛ اللأمر الذي أفضى إلى إغفال الظرفية المكانية و الزمنية و حال المخاطب بل و إشعاره بأن ما يصل إليه من خطب ودعوات ما هي إلا تكرار مسموع و مشاهد لما هو فات من مواقف أو أزمات لا تمثلهم و لا تخاطبهم.

فلم يكن في المادة الدعوية المستعان بها من تراثنا العيب و لا في أدلتنا الدينية النقص ، بل في ظني أن الطريق ضلنا بسبب الاعتماد التام على الآلية الخطابية المكتوبة التي تشعر المضلل من الشباب وكأن الخطاب الدعوي قصائد مناسبات في كل ناد تقصد؛ فافتقد في شكله و مضمونه القدرة على الجذب أو حتى التوجيه.

ياسادة نحن أصحاب بيئة تعيش و تتعايش مع البيئة الثقافية الشفهية لأنها ثقافتنا التي أحاطت بنا بكل أذرعها الإقناعية و الإمتاعية ؛ و بدون الاعتماد على الشفهية خطابا دعويا إرشاديا تصير أصواتنا و كأنها حجر دوار في دائرة مفرغة لا تصيب مرمي و لا تصل إلى منتهى .

ما العجب في كون الخطاب الموجه إلى الشباب المضلل يتفق و ثقافتهم و ميولهم وعاداتهم وتقاليدهم الموروثة منها و المستحدثة !

ما العجب أن يشتمل خطابنا الدعوي على الآليات الخطابية السائدة في بيئة المستهدفين والمضللين من أشعار تمثل آمالهم ، أو أمثال عامية سائدة في ثقافتهم ، أو نكت تخاطب أفكارهم و أرواحهم !

ما العجب في كون الخطاب الدعوي مجسدا للصحابة و التابعين و كذلك الشخصيات التاريخية التي نذرت حياتها من أجل الدفاع عن الإسلام من الموجات المتطرفة التي حاولت أن ترهق الكيان الإسلامي خدمة لأعدائه ؛ و لكنها لم تفلح !


إن الخطاب الشفهي و آلياته يخاطب الجانب الإقناعي و الإمتاعي في آن في ظل الظرفية المكانية و الزمنية و هو الأولى بالاستعمال في التوجيه و الإرشاد ، و الخطاب المكتوب قد يكون نقلا لإمتاع و إقناع تجارب فائتة؛ فتمر على نفس المخاطب الآني مرور الكرام لا صدًا له و لا تأثيرا مهما أوتي من المادة المستعملة في العملية الدعوية من دلالة حجاجية إقناعية ، فأيهما أولى و أقدر بالاستعمال و الاستخدام ( الخطاب الشفهي الدعوي ، الخطاب المكتوب الدعوي )؟!

لم أقصد من خلال هذه الكلمات و العبارات زيادة دائرة الحيرة بين القراء ؛ فقد يكون الخطاب المكتوب مقروءً كما نسمعه في الخطب الدينية المنقولة لمناسبات الجمعة أو أعيادنا ، و لكنه لايمت للشفهية بصلة من قريب أو بعيد لأن الآليات المستعملة في كلا الخطابين لا تتلاقى و لا تتفق إلا فيما قل و ندر، و الأمثال و الشواهد على ذلك أظن أن مقالي لا يتسع لتفنيدها و تفصيلها ، و لكن كلماتي ربما تكون إشارة تنير عقول مخلصة تسعى للإصلاح و التنوير.

و تشهد كتابتي السابقة أني لم أكن من أنصار الانحياز إلى الهجوم على الرأي المرجوح في النتيجة والصواب بيد أنني دائما أنظر إلى الإخفاق باعتباره خطوة من خطوات النجاح .


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط