الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

بر "الجنين" بأمه وتفاعله معها


الكل يدرك فضل الأم على أبنائها منذ بداية حملها بهم وطوال وجودها معهم في الدنيا، حتى قيل إن الجنة تحت أقدام الأمهات، وفترة الحمل بالذات كلها معاناة كما نصت الآية الكريمة "حملته أمه وهنا على وهن" (لقمان 14)، أي مشقة على مشقة، لذا تقدم بر الأم في حديث شريف ثلاث مرات على بر الأب، وعليه يحرص الكل على بر أمه ونيل رضاها، لكن الجديد في هذا المقال هو بر الأجنة بأمهاتها!.. فكيف يحدث ذلك؟

في عام 1979 تفاجأ العلماء بوجود خلايا ذكرية (نوع Y) في أجسام سيدات، مع أن جميع خلايا أجسامهن يجب أن تكون من النوع المؤنث (X) فقط.. بحثوا عن مصدر هذه الخلايا واكتشفوا أنها تسربت إلى دماء الأمهات من حمل سابق لهن بأطفال ذكور، وفي عام 2010 عثروا على هذه الخلايا في جسم سيدة بعد 30 سنة من آخر حمل لها بطفل ذكر، بمعنى أن وجود هذه الخلايا يستمر في الأمهات لعقود وإلى آخر العمر، وليس فقط خلايا الأجنة الذكور، بل خلايا الأجنة الإناث أيضا تهاجر وتقوم بنفس الأدوار، لكن يصعب تمييزها من بين خلايا الأم التي هي أصلا كلها X.

لاحقا، تأكد العلماء أن خلايا الجنين الجذعية والمناعية تخترق حاجز المشيمة وتعبر إلى دم الأم وتسبح فيه، وتغزو كل أجهزة وأعضاء الأمهات من الجلد إلى المخ، وتقوم بأدوار كثيرة لم يعرف منها إلا القليل حتى الآن، وحتى الجنين الذي يسقط لا يفوته هذا الواجب، بل يترك بعضا من خلاياه لتلعب نفس الدور مثل الذي أكمل مدته.. وفيما يلي أمثلة لبعض ما تقوم به هذه الخلايا:
1- تشارك في التئام جروح الأم كجرح العملية القيصرية وغيرها.
2- تمد أعضاء الأم بخلايا جديدة لترميمها.
3- تساهم في بناء عضلة قلبها إذا ما اتلفتها جلطة.
4- انتشارها في ثدي الأم لها فائدتان: ينشط إدرار اللبن بعد الولادة ويمنع سرطان الثدي، ودليلهم في ذلك عدم وجود هذه الخلايا في أثدية السيدات المصابات بالمرض، كما تمنع سرطانات المبيض والمثانة بنفس الطريقة.
5- الخلايا التي تستقر في مخ الأم تلعب دورا في أنشطته، وتمنع حدوث مرض الزهايمر، فقد فحص علماء من جامعة واشنطن أدمغة نساء متوفين ولم يجدوا في مخ مصابات الزهايمر هذا النوع من الخلايا.
6- وأخيرا وليس آخرا، الخلايا المناعية التي يرسلها الجنين إلى جسم أمة هي بمثابة "بعثات دبلوماسية" للتفاهم وتهدئة الأوضاع المناعية لدى الأم حتى لا يعامل الجنين كجسم غريب ويتعرض للطرد !.

ومن الطريف اكتشاف نوع من المشاكسة بين الإخوة حتى قبل خروجهم إلى الدنيا، إذ تبين أن الخلايا المتراكمة من الحمل المتكرر بإخوة، تتصادم مع بعضها داخل جسم الأم بسبب اختلافاتها المناعية!.

ويبقى في هذا الموضوع لغز محير، فقد وجدوا خلايا الجنين هذه منتشرة بكثرة بين خلايا سرطانات عنق الرحم والرئة في السيدات، وتساءلوا لماذا تتزاحم هذه الخلايا وسط النسيج السرطاني، وجاءت إجابة العالم دوناهيو وفريقه البحثي عام 2011 على هذا السؤال بالقول: إنه يتم استدعاء هذه الخلايا إلى هذه الأماكن "لعمل أي شىء وإنقاذ ما يمكن إنقاذه"!.

ووصل تأثير الجنين في أمه إلى أبعد من ذلك، ففي الولادات الطبيعية، وعلى عكس الاعتقاد السائد، ثبت أن الجنين هو الذي يطلب الخروج وهو الذي يحدد ساعة الولادة وليس الأم! وذلك وفق تسلسل جديد للأحداث.. هرمون الولادة "الأوكسيتوسين" يرتفع في دم الأم قبل الولادة بساعات، وهو الذي يسبب انقباضات الرحم التي تتسارع وتشتد إلى أن تطرد الوليد، وهذا معروف، لكن الجديد هو ارتفاع هذا الهرمون في دم الجنين قبل ارتفاعه في دم الأم بعدة أيام، بمعنى أنه يفرز هرمونه قبل أمه بأيام وبمستويات متأرجحة كنوع من الإثارة والتنبيه وتحفيز الأم لتفرز هرمونها وتبدأ الولادة كالمعتاد.

أما عن التفاعلات النفسية المتبادلة بين الأم والجنين فمعروفة منذ فترة، واهتم بها فرع جديد في الطب ظهر مؤخرا تحت عنوان "علم نفس الجنين"، نقتبس منه السطور التالية: الأم القلقة المتوترة يتوتر جنينها ويقلق، والأم الراضية الشاكرة يكون جنينها راضيا شاكرا لأن هرمونات التوتر والغـضـب عند الأم (الكاتيكولامينز) تتسرب إليه وتغضبه، وهرمونات السعادة (كالسيروتونين) تصل إليه وتسعده.. ولوحظ أنه ينزعج من الضوضاء ويركل بطن أمه معبرا عن عدم رضاه عن بعض المواقف، وثبت أنه يخاف ويتألم من الصدمات ويشعر بالإهانة من التدخلات الطبية القاسية، كما أنه يتذوق كل المشروبات التي تتناولها أمه وتكون مفضلة لديه عندما يكبر!

خلاصة القول، إن الجنين الضعيف في بطن أمه قد يكون أكثر إحساسا وبرا بأمه من أخيه الذي سبقه وخرج إلى الدنيا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط