الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خطة السيسي لحماية النيل


عندما كلف الشعب المصري عبد الفتاح السيسي خلال ثورة 30 يونيو بإعادة مصر لأصحابها كان لزامًا عليه مواجهة أهم وأخطر ملف تواجهه الدولة المصرية في تاريخها، وهو ملف مياه نهر النيل، ترياق الحياة للمصريين، والذي يوفر لهم 97 في المائة من مواردهم من المياه، ولذلك لم يكن مستغربا أن يخلد المؤرخ الإغريقي هيرودوت نفسه في كتب التاريخ بمقولته الشهيرة "مصر هبة النيل".

وكما أشرنا في المقال السابق فإن إثيوبيا استغلت ضعف الرئيس الإخواني مرسي العياط؛ لتبدأ في بناء سد النهضة في مايو 2013 مع الاعتراف الكامل بخشيتها من القيام بمثل هذه الخطوة الخطيرة خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك؛ خوفًا من خلفيته العسكرية؛ رغم إهماله الشديد للقارة السمراء، منذ أن تعرض لمحاولة اغتيال في 1995 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

فماذا يفعل السيسي وقد انتخب حديثًا وقد صار سد النهضة حقيقة واقعة، بل وتفاوضت شركة إسرائيلية على تولي مهمة تسويق الكهرباء المولدة منه، فضلًا عن توقيع 6 دول مشاطئة لنهر النيل في مايو 2010 على الاتفاقية الإطارية التي تطرقت للمرة الأولى لإمكانية التحدث بشأن الانتقاص من حصتي دولتي المصب مصر والسودان من مياه نهر النيل لتزداد التركة ثقلًا؟ فهل يستهدف السيسي السد الإثيوبي بضربة عسكرية؟ وهل القوات المسلحة المصرية التي تم إهمال تحديثها منذ ثورة 25 يناير 2011 وخلال فترة حكم الإخوان قادرة على القيام بهذه المهمة بكفاءة عالية في هذا التوقيت الحرج؟. 

وهل ثبت علميًا أن سد النهضة سيؤثر بشكل فعلي على حصة مصر من مياه النيل في وقت تنفي فيه إثيوبيا وقوع أي ضرر على مصر؟ وأخيرًا وهو والأهم من ذلك هل مصر قادرة على تحمل تبعات هذه الضربة العسكرية على المستوى السياسي في وقت تحظى فيه إثيوبيا في هذا التوقيت بيد المساعدة، من جانب إسرائيل وبتأييد من إدارة باراك أوباما رئيس أمريكا الأسبق، فضلًا عن الدعم الذي تلقاه من بعض الأشقاء العرب خاصة الدويلة المارقة قطر؟ والأخطر من ذلك هو التأييد الذي تحظى به إثيوبيا من بعض الدول المشاطئة للنيل لإقامة هذا السد نظرًا لافتقار إثيوبيا للطاقة التي تجعل من مدة انقطاع الكهرباء في المدن الإثيوبية أطول من الفترة التي يعود فيها التيار مع تقدير هذه الدول الكامل لحق مصر في مياه نهر النيل.

إذًا في ظل هذه التركة الثقيلة لم يكن أمام السيسي سوى وسيلتين للحفاظ لمصر على رصيدها من المياه.. الأولى: الإسراع بربط المصالح الاقتصادية المصرية بالمصالح الاقتصادية الإثيوبية بصفة خاصة والإفريقية بصفة عامة لتسهيل أي مسيرة تفاوضية بشأن مياه نهر النيل، وثانيا الارتقاء بقدرات القوات المسلحة المصرية "ذراع مصر الطويلة " منذ عهد رمسيس مرورا بصلاح الدين ومحمد على وعبد الناصر وحتى مبارك.

فالوسيلة الأولى تمهد بشكل قاطع لأي خطوة قد تتخذها مصر في المستقبل إذا تأثرت حصتها من مياه نهر النيل لأن الشراكة الاقتصادية القوية تظهر حسن نيتها تجاه أشقائها الأفارقة لكن مع ذلك حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي في كل كلماته سواء الموجهة للأشقاء الأفارقة أو للعالم أو للداخل المصري على تأكيد أن مصر تعتمد بشكل أساسي على مياه نهر النيل وأن الاقتراب من هذه المياه تعني فناء الدولة المصرية والشعب المصري صاحب أول حضارة عرفها التاريخ وكانت على أرض إفريقيا.

وتأتي إستراتيجية السيسي القائمة على الربط بين المصالح الاقتصادية المصرية والمصالح الاقتصادية الإفريقية تيمنا بالحكمة الفرنسية التي تقول "عندما تستفيد مني وأستفيد منك فكل المشاكل التي تنشأ بيننا يمكن التوصل لحلول لها عبر التفاوض".

الجدير بالذكر أن علاقات مصر مع إفريقيا خلال حقبة الرئيس عبد الناصر شهدت تميزا كبيرا لقيامها على المصالح المشتركة لكنها للأسف الشديد اقتصرت في غالبيتها العظمى على تحقيق المصالح السياسية التي يمكن أن تتغير وفقا للظروف و المناخ العالمي خلافا للمصالح الاقتصادية التي تظل قائمة لقدرتها على الاستمرار حتى خلال أسوأ التوترات السياسية. 

فخلال الحقبة الناصرية كان الأفارقة بحاجة لمصر الدولة المحورية في منطقة الشرق الأوسط للحصول على الاستقلال والقضاء على نظام الفصل العنصري مقابل تدعيم الأفارقة لمصر والعرب في إطار الصراع العربي الإسرائيلي.

وعندما تحقق للأفارقة ما يريدونه لم تعد الأجيال الجديدة تتذكر ما قام به الرئيس عبد الناصر باستثناء أبناء الزعماء التاريخيين للقارة السمراء من أمثال أبناء باتريس لومومبا الرئيس الكونغولي الذي أنقذ عبد الناصر حياة أسرته بعد اغتيال لومومبا على أيدي المحتل البلجيكي وبالتعاون مع المخابرات الأمريكية.

ومع تغير الظروف السياسية وتخلص الأفارقة من الاستعمار ونظام الفصل العنصري برز التنافس بين الدول الإفريقية الكبرى على المقعدين الدائمين المفترض منحهما للقارة الإفريقية في حال توسيع مجلس الأمن فإلى جانب مصر الطامحة في أحد هذين المقعدين بوصفها أهم دول القارة السمراء برزت المنافسة من جانب دول إفريقية كبرى على المقعدين مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وحتى إثيوبيا فضلا عن الجزائر.

و قد وصلت شدة المنافسة على قيادة القارة الإفريقية لدرجة أنني سمعت من أكثر من مسئول إفريقي خلال قمة الإتحاد الإفريقي في يناير الماضي أن القضايا العربية بما فيها الخلافات العربية التي لا تنتهي أصبحت عبئا على الإتحاد الإفريقي في إشارة واضحة إلى الخلاف بين المغرب و الجزائر بخصوص الصحراء الغربية .

و لذلك فقد أرتكزت إستراتيجية الرئيس السيسي على ربط المصالح الإقتصادية المصرية بالمصالح الإفريقية بشكل عملي ليشهد شهر يونيو 2015 تحولا جذريا في هذا المجال حين إحتضنت مدينة شرم الشيخ مؤتمر التكلتلات الإقتصادية الإفريقية الثلاث (الكوميسا - سادك - تجمع شرق إفريقيا) و قد أثمر هذا المؤتمر عن إقامة شراكة بين 26 دولة إفريقية بقيادة مصر يسيطرون على ثلثي إقتصاد القارة الإفريقية . و قد أثمر هذا المؤتمر الذي شاركت فيه إثيوبيا على أعلى مستوى بوصفها عضو في تكتل الكوميسا عن إقامة منطقة تجارة حرة تمتد من القاهرة في أقصى شمال القارة و مرورا بإثيوبيا وصولا إلى بريتوريا في أقصى جنوب القارة .و قد حظيت هذه المنطقة بإهتمام كبير من جانب الدول الكبرى فبادرت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية بعقد قمة ألمانية إفريقية في يونيو الحالي في برلين تحت رعاية مجموعة العشرين .

كما حرص الرئيس السيسي على إظهار أكبر قدر ممكن من الإهتمام بالقارة الإفريقية من خلال مشاركته في كل القمم الإفريقية سواء القمة الرئيسية التي تعقد في مقر الإتحاد الإفريقي بأديس أبابا في يناير من كل عام أو القمة الفرعية التي تعقد عادة في الصيف في إحدى العواصم الإفريقية .

كما تعددت لقاءات الرئيس السيسي برئيس وزراء إثيوبيا هايلي ميريام ديسالين لخلق أجواء من التآلف و الصداقة بين الزعيمين و قد ظهر ذلك جليا من خلال قبول إثيوبيا للخضوع لآراء المكاتب الفنية الاستشارية التي ستتولى تحديد الأضرار الناجمة عن سد النهضة على دولتي المصب مصر و السودان .

و لم تتوقف لقاءات الرئيس السيسي مع زعماء دول حوض النيل بل شملت أيضا جميع قادة الدول الإفريقية حتى يحبط السيسي من يروجون بأن مصر لا تهتم بإفريقيا إلا من أجل مياه نهر النيل .

و قد كان إحتضان شرم الشيخ في 2016 لاحتفالية مرور 150 سنة على إنشاء البرلمان المصري بحضور جميع البرلمانات الإفريقية بمثابة ربط بين نواب الشعب في مصر و نواب شعوب الدول الإفريقية . و قد عكست كلمة رئيس البرلمان الإفريقي روجيه انكودو في هذه الاحتفالية مدى اعتزاز الأفارقة بمصر خاصة عندما قال انكودو "ان الاحتفال بمرور 150 عاما على الحياة النيابية المصرية ليس ملكا لمصر وحدها بل ملكا لكل دول القارة الافريقية".

وقد جاءت مشاركة الرئيس السيسي الأخيرة في قمة دول حوض النيل في كامبالا لتؤكد إستراتيجيته القائمة على إقامة شراكة إقتصادية قوية بين مصر و الدول الإفريقية بما فيها الشراكة في إستغلال مياه نهر النيل لصالح جميع الدول المشاطئة للنهر . و قد تركزت كلمة الرئيس السيسي أمام قمة كامبالا على النهوض بالشراكة الإقتصادية المصرية الإفريقية مع التأكيد على تمسك مصر بحصتها من مياه نهر النيل البالغ قدرها 5ر55 مليار متر مكعب.

أما الوسيلة الثانية التي لجأ اليها الرئيس السيسي للحفاظ على حصة مصر من المياه فهي الأرتقاء بمستوى القوات المسلحة المصرية سواء بالتسليح أو بالتدريب في أفرع القوات المسلحة الثلاثة البرية و الجوية و البحرية .

فمن منا لا يدرك أن من الأسباب التي دفعت الرئيس السيسي لتلبية نداء المصريين في ثورة 30 يونيو هو إهمال جماعة الإخوان لتوفير كل الإمكانيات اللازمة للقوات المسلحة المصرية خلال فترة حكمهم . و تؤكد العديد من قيادات القوات المسلحة المصرية أن فترة الإخوان شهدت إهمالا كبيرا في توفير متطلبات القوات المسلحة لدرجة أن بعض زعماء الإخوان شككوا في قول الرسول عليه الصلاة و السلام أن جنود مصر هم خير أجناد الأرض .

وكانت الطائرات الفرنسية الرافال متعددة المهام على رأس أولويات الرئيس السيسي عندما تولى مسئولية قيادة مصر، وتتميز هذه الطائرات بمدى يصل إلى 3200 كيلو متر تستطيع أن تصل لضعف هذا المدى عندما يتم تموينها بالوقود في الجو. وهذا يعني أن هذه الطائرات قادرة على تنفيذ مهام تصل إلى أهداف تبعد آلاف الكيلومترات عن الأراضي المصرية دون الحاجة للعودة لقواعدها للتزود بالوقود .

ويرى الرئيس السيسي أن قوة مصر من قوة أسطولها فبادر بتسليح البحرية المصرية بحاملتي الطائرات المروحية " عبد الناصر " و" السادات " و هي بمثابة أقوى دعم حظيت به قواتنا المسلحة في تاريخها. 

وتمتلك الميسترال إمكانيات هائلة فلديها قدرات هجومية برمائية لدعم عمليات حفظ السلام و عمليات الاسقاط والإنزال البحري، فهي قاعدة بحرية متنقلة قادرة على نقل القوات المسلحة المصرية إلى أي نقطة خارج مياهها الإقليمية .

كما جاء تسليح البحرية المصرية بالغواصات الألمانية من طراز "تايب 209/1400 "بمثابة إضافة قوية أخرى للقوات البحرية المصرية فهذه الغواصة قادرة على السير لمسافات تصل إلى 12 ألف ميل بحري فضلا عما تمتلكه من قدرات تسليحية عالية .

و لا يعني تسليح القوات المسلحة بأحدث التقنيات العسكرية أن الرئيس السيسي سيقوم بعمل عسكري وشيك ضد إثيوبيا و لكن ذلك يعني أن الدولة التي ترتكز على قوات مسلحة قوية ذات أذرع طويلة يعمل الجميع لها ألف حساب خوفا من جبروتها العسكري و تكون هذه القوة العسكرية رصيد قوي لها في مسيرتها التفاوضية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط