الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

يحيي ياسين يكتب: غريب فى قومه!‎

صدى البلد

شابٌ يتيمٌ له أبوان، منقطع الأهل لكنه له من الأخوة تسع، وحيدُ المجلس حوله أخلّاء كالرماد، كئيبُ المنظر، تصحب عينيه هالات سوداء ، جريحُ القلب، رُبما اجتمعت به نقائض الصفات وترادف معانى الحزن إلا أنه صامد كجبل الصفا لا يهزه غبار.
ولد الطفل لأب عجوز قد أنهكه العُمر وأصابه الملل من هموم دنياه، ورغب عن الأبناء من كثرتهم، لا يبالي بشؤونهم قدر عددهم، ولأم عطوف حنون، قد بلغت من التربية مبلغها ونصبت من الأبناء الكثير حتى رغبت عن المزيد، فكأن الغلام خطأ ارتكبه والداه ليعيش مكابدًا لخطئهما!

نعم، لقد كان الطفل سعادة لأهله كما أخبروه، كدمية تتنقل من يد هذا لذاك ، حتى كبر الطفل فصار غلامًا يعي ما يدور حوله، فيبحث عن والد له لا يبالى، ووالدة له مهمومة بما سبقه من إخوته فهذا متزوج وآخر يتعلم وأخرى شابة فى ريح زوج تنطره، وأنهكتها دنياها بهمومها كلما سألها حاجته أجابت برفق"لقد سئمت العيش والبنين أفلا تكف عنى"، فينصرف الغلام إلى حضن شقيقته الكبرى، تداعبه برفق كأكبر أبناءها فتصبحه بسرد وتمسيه بقصص تلهيه، فقد كان لها عقل راجح فتعرف كيف تروضه وترضيه.

يأت الليل بأهواله، وطيلة زمنه متزامنًا مع سقيع أطراف الغلام الرقيقة، وتنتفض قدميه وينبض قلبه فى مشهد يتكرر كل ليلة وهو يقلب النظر فى سقف غرفته، فلا يجد حضنًا يضمه لينسيه مرارة وحشته فى فراشه وحيدًا! فمن يفكر من أبويه أو إخوته به! بل كلٌ فى همه يهيم، ثم يأت الصباح فيستيقظ الصبي ليتجهز إلى مدرسته، بوجه متغمص وبطن خاوية فيسأل أمه " أين طعامي يا أماه ، ألم تحضرى لى رغيفا من "الفينو" فأنا أنظر لزملائى كل يوم ولا أجد فى حقيبتى مثلهم"! فتجيبه برفق "سأعطيك ربع دينار تشترى رغيفا من الفول في راحة المدرسة"، فيأخذ الصبي المال فلا يرض الحارس أن يخرجه من المنفذ خشية ألا يهرب فلا يعود! فما كان منه سوى أن يقفز من أعلى الجدار حتى يراه الحارس فيقدم عليه يسوطه بعصاه كالبهائم لا يبالى بصراخه سوى معاقبة الصغير الرقيق.

كان الصبي يجلس كثيرًا حزينًا يقول "لماذا هكذا"؟ ألستُ كغيرى من الصغار!؟ ثم تدمع عينيه فيطيل بكاءه ويعلو نحيبه حتى يخفض صوته خشية أن يسمعه أو يراه أحد، ويضع يديه على صدره فكأنه يواسي نفسه بنفسه ، ظل الصبي هكذا إلى أن شب وبلغ العاشرة من عمره، ولم يتغير من حوله شئ، سوى نمو جسده وازدياد حزنه وبؤسه الدائم.

تُراه كان يعقل الصبي معنى الحزن حقا!؟ ، قد يظن البعض أنى أبالغ فى وصف حال الرقيق، بل لا يقدر قلمى على وصف جزء من حزنه، فإذا نزع الحنان من حياة الطفل فماذا بقي له ؟ وماذا يعرف سوى الدلال والحنان وهو فى المهد هكذا؟ ، فعلى من يتدلل الصبي؟ ، ، وكم من صبي مثله يعاقب بذنب لم يرتكبه فمنهم من يكابد ويكمل حياته صامدا المظهر معقد الجوهر! ومنهم من يميت نفسه كقيس.

لم يجد قيس من يعلمه الصواب والخطأ وهو فى العاشرة، فما كان منه إلا أن يتبع جماعة الفساد والنجاسة، فتبع صديقه الذي أعطاه "سيجارة" بعد أن أقنعه أنها تنسيه ما ألم به وبحاله! واحدة تلو الأخرى حتى صارت له قرينة! وبين أصابعه مترابطة، فى جيبه مقيمة، فيصرف نقود دروسه على سجائره، وما لبث أن اصطحبه إلى شرب الخمر وفعل الفحشاء، فصارت البزاءة على لسانه عادة.

فكم من قيس أودى به الإهمال فى أسرته إلى هذا الحال ثم نخرج فى التلفاز نهلل ونكبر من ازدياد عدد المجرمين والعاطلين والمفسدين؟! ومتى يعى الآباء أن الإنجاب ليس نقودا وملبسا وملهى ومصيف قدر ما هو رعاية وتربية وتقويم!؟ أفلا نصلح أبناءنا من بيوتنا أولا قبل أن نرميهم بالتهم والفساد! فإن الله لا يغير بما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.