الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صيام عاملة المطار!


لقد جاءت الأديان لتنظم العلاقات بين العبد وخالقه من ناحية، وبين الإنسان وأخيه الإنسان من ناحية أخرى، وبين الفرد والجماعة البشرية التي تتفق معه في نفس العقيدة من ناحية ثالثة، وبين الإنسان وغيره من بني جنسه من ذويي العقائد والملل الأخرى من ناحية رابعة، وهكذا جاءت الأديان لترسم الطريق الذي يجب أن يسلكه العبد والإنسان.

ونعلم أن الله سبحانه وتعالى يسامح العبد الذي يقصِّر في حقه سبحانه وتعالى لأنه هو الرحمن الرحيم الذي خلق الإنسان ضعيفا؛ يعلم نوازعه، ويدرك خفقاته، فيتجاوز لذلك عن سيئاته، ويضاعف له حسناته، فيجعلها بعشرة أمثالها، ويضاعف لمن يشاء، ولكن هذا الخالق الحكيم، لا يسامح العبد الذي يقترف إثما في حق عبد آخر، وهنا قمة الحكمة، وكأني برب العالمين، يعلن أن هناك ملكية خاصة، لا يتدخل هو فيها - حاشا لله - بالأمر بين عباده، بل يجعل هذه الملكية للعبد يتخذ فيها القرار، فيتسامح سبحانه وتعالى في حقه، ولكنه لا يتسامح في حق عبد من عباده، ليتركه يتخذ القرار بنفسه.

وإني أظن أن الله سبحانه وتعالى ترك هذا الأمر بين العباد، لكي لا يتيه أيٌّ من البشر - مهما كان قدره - علوا على غيره من الناس، ولا يسلك سلوكا متكبرًا على غيره من بني البشر، هؤلاء الذين هم أعضاء المجتمع، الذي هو الآخر له حق على الفرد رسمه الدين، ووضع الأسس له.

وإذا أراد ايٌّ منا أن يكون متدينا، كما يجب أن يكون هذا التدين، فعليه أن يأتي بتلك العلاقات التي حددها الدين بقدر متساوٍ، أو على الأقل بالقدر الأدنى الذي حدده هذا الدين، فليس متدينا، في تصورنا، من يأتي بتلك العلاقة - التي يتوهمها خطأ - بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فيأتي بصلاة وصيام وحج، ويهمل جانبا من هذه العلاقات الأخرى التي تربطه بالإنسان أو المجتمع.

إن من يفعل ذلك إنما لم يفهم للدين جوهرا، ولم يسلك في الدين مسلكا اراده خالق العباد، بل هو في الحقيقة لم يأت من الدين بشيء، حيث أن الدين -في تصورنا - وحدة كلية، يشمل المظهر والجوهر، والشكل والمضمون، وقيل في هذا -على سبيل المثال - من لم تنهه صلاته فلا صلاة له، وهي مقولة عميقة، لو أردنا أن ننظر فيها لأخذت الكثير ولاستنبطنا منها أساس الدين ودوره وجوهره، تلك المقولة التي تربط الشكل بالمضمون ربطا لا انفصام فيه، فالصلاة هي تلك العلاقة بين العبد وربه، فإن آتاها العبد كما ينبغي شكلا، لن تقبل منه إن لم تظهر في سلوك ذلك العبد مضمونا وجوهرا للدين يمشي على قدمين بين الناس.

إن آفة مجتمعاتنا أنها أخذت من الدين شكله، فرأينا المجتمعات تهتم اهتماما كبيرا بأداء الصلاة والتزيد في الصيام والحرص على أداء الحج والذهاب مرارا للعمرة، في ذات الوقت الذي لا تعلي فيه من قيمة العمل، ولا تلتزم بالإخلاص، ولا تلزم الصدق، وتستمرئ الرِّشا، وتستحل استعمال ما ليس حقا لها من ملكية عامة، وتتقرب لله!! بأموال لم تكن لها، وبأعمال ليست من الدين في شيء، فنجد الذي يكسب بطرق غير مشروعة يقيم مسجدا، وهو يحسب أنه يحسن صنعا، في فهم أعوج لجوهر الدين.

في رحلتي الأخيرة للقاهرة لفت انتباهي العديد من الأشياء والكثير الأفعال، لعله من المناسب أن استعرض هنا أمرين كاشفين بدرجة ملفتة: الأول كان لخطيب جمعة في إحدى زوايا قرية ميت مرجا سلسيل التي اقيم بها بمحافظة الدقهلية؛ حيث استشهد هذا الخطيب عدة مرات بآيات قرآنية، لم تسلم واحدة منها من لحن أو خطأ، فأي خطيب هذا الذي لا يستطيع أن يحفظ أو يضبط بعض آيات من القرآن الكريم سيستشهد بها في خطبة يلقيها على آذان المصلين، والتي لن تتجاوز هذه الآذان لأن ملقيها لم يبذل ما ينبغي لكي يصل إلى قلوب وعقول مستمعيه، فأي تدين هذا لمثل هكذا خطيب، تتشدق أوداجه بألفاظ وعبارات ينسبها للدين الذي لم يحترم هو تعاليمه بالسعي والإخلاص والإتقان.

الموقف الثاني أظهر انفصاما واضحا في الشخصية، حيث قبل دخولي - في رحلة العودة إلى فيينا - إلى بوابة السفر والذي كان عليّ أن أمكث فيها ما يقترب من الساعتين قبل الصعود للطائرة، احتجت أن أحتسي فنجان قهوة، في "استراحة" كائنة قبيل بوابة السفر مباشرة، توجهت للعاملة فيها وطلبت نوعا من القهوة، وكوب ماء لكي أتناول حبوب مسكنات لدور برد استشعر بمقدماته، فدخلت العاملة في نوبة "عطس" استسمحتها على إثرها أن أمنحها من تلك الحبوب التي أتناولها حيث أن بوادر برد قد ظهرت عليها، فشكرتني لأنها صائمة!، كان ذلك صيام العشرة الأوائل من ذي الحجة الذي لا أعلم له أصلا في الدين، أنا دارس الفقه، وحملت القهوة التي أعددتها على "ماكينة" بها من القذارة ما لم تقع عيني عليه منذ سنوات، فالنمسا التي اقيم فيها منذ أكثر من عشرين سنة يهتم أهلها - الذي لا يصومون - بالنظافة لدرجة هائلة، وجلست على منضدة لا تمت للنظافة بصلة، وكنت قد مسحت الكرسي بمنديل ورق أخرجته من جيبي ليتمتع ببعض النظافة، ونظرت على كل المكان الذي هو داخل مطار القاهرة عنوان بلدنا الرائع، فإذا بكل الكراسي لا يتمتع أحدها بالنظافة، وكل "التربيزات" من القذارة مكان، ونظرت للعاملة فإذا بها تتمتم لعلها بآيات قرآنية أو أدعية تطلب من الله فيها أن يدخلها جناته العالية، في مشهد متناقض؛ يعكس فهما سقيما للدين، كما يعكس في أوضح الصور الانفصام بين الشكل والمضمون، وبين طاعة الله الذي لم يأمرنا بالصيام في هاتيك الأيام العشر، ولكنه أمرنا بالإخلاص في العمل، والاجتهاد فيه، وقدم حقوق العباد، التي من بينها الخدمة المناسبة للزبون، على حقوقه سبحانه وتعالى فهو الرحمن الرحيم الذي يتجاوز عن عباده، ويمنحهم الرخص في الفروض، فيفطر الصائم في رمضان لو ألم به مرض، كالبرد الذي أصاب عاملة المطار ولم تفطر في يوم لا أمر بالصيام فيه من الأصل.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط