الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هل اللُّغة الأم هى لغة التفكير الوحيدة؟



اللُّغة على مَذْهَب عالِم النَّفْس الروسى "إيفان بافلوف" Ivan Pavlov (1849- 1936) فى الأفعال المُنْعَكِسَة الشرطيَّة ـ هى عادات لسانية، ترتبط بشكل وثيق بالنشاط الذهنىِّ والعملىِّ للإنسان؛ ولذلك فمن الصعوبة بمكانٍ الخروج عليها، كما أنه ليس من السهولة اعتماد لغة أخرى؛ إذ يتطلَّب ذلك أن يعيش الإنسان عاداتها اللسانيَّة ويتمرَّن عليها فترة طويلة حتى تصبح جزءًا من سلوكياته العفويَّة؛ أى جزءًا من ذاته، وإلَّا فهو يُعانى جفاف التعبير وصعوبة الكلمة.

وهنا تَبْرُز أمامنا مشكلة اللُّغة الأم من حيث هى أداة التفكير العفوى الوحيد، التى بإمكانها أن تُفْضى بمواجيد النفس بشكل انسيابى، فنحن هنا لسنا أمام فكرة فى جانب ولفظة فى جانب آخَر، كما هو حال كثيرين ممن يُتْقِنون لغات أجنبية، وإنَّما نحن أمام حركة جدليَّة خاطفة، لا تبدأ بفكرة أو صورة فى الداخل أو الخارج حتى تنتهى بلفظة ذات حدود موسيقيَّة معيَّنة، ومضمون ذهنى خاصّ، إننا أمام عادات لسانيَّة وألفاظ اتخذت لها مجارى خاصَّة فى الأعصاب، ترتبط الصور والأفكار التى تحملها الألفاظ بالنَّبَرات الصوتيَّة التى تتكوَّن منها هذه الألفاظ؛ مما يجسِّد قابليَّة التعبير العفوىِّ عند الإنسان باللُّغة التى يعيش أساليبها وصيغها وتراكيبها ومفرداتها.. كحياة وحركة وفعل.. باللُّغة الأم.

ويتعيَّن علينا الانتباه إلى أنه ليس ثمة رابطة بين العرق أو النَّسَب وبين اللُّغة الأمِّ؛ فليس ضروريًّا أن تتطابق لغة التفكير لدى المرء مع لغته الأولى (لغته الأم)، فقد تكون اللُّغة الأم لشخص ما هى العربيَّة، ولكنه يفكر بالإنجليزيَّة؛ بسبب هيمنة هذه اللُّغة لديه، أو لأنه عاش فترة طويلة بين أهلها، أو لأنه تلقَّى معظم تعليمه بواسطتها، فأيّما لغة عاشها الفرد واعتاد أساليبها وصيغها وتراكيبها وأصواتها تصبح بالنسبة له "اللُّغة الأم".

تُثير قضيَّة تأثير اللُّغة على الفكر جملةً من التساؤلات: هل للغة حقًّا تأثير على الفكر؟ هل يمكن لبِنْية اللُّغة التى نتحدَّثها أن تؤثر فى طريقة إدراكنا الحسِّى للعالم من حولنا، ومن ثم فى طريقة تعاملنا معه؟ هل المتحدِّثون بلغاتٍ مختلفة يرون العالم بطرق مختلفة؟ هل تعكس اللغات المختلفة ثقافاتٍ وأفكارًا ومعتقداتٍ مختلفة؟ هل يمكن استخدام اللُّغة فى التأثير على عقول البشر وأفكارهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم؟ على الرغم من تباين الآراء فى الإجابة عن هذه التساؤلات، فإنه يمكننا أن نَخْلُص إلى النتائج الآتية:

• لا شك أن للُّغة تأثيرًا ما على الذاكرة والإدراك والفكر.

• لا توجد حتى الآن الدلائل أو البراهين العمليَّة التى يمكن أن تُقْنِعْنا بأن المُتحدِّثين بلغات مختلفة يرون العالم بطرق مختلفة؛ ومن ثم يعيشون فى عوالم مختلفة أو مُنْفَصِلَة؛ فاللغات جميعها تتماثل أكثر مما تختلف فى جوهرها وفى طريقة وصفها للواقع، ولو لم تكن كذلك لَاستحالَ التواصل بين الشعوب المختلفة.

• قد لا يكون الاختلاف فى طريقة تصوُّر الأشياء بقدر ما هو اختلاف فى الأشكال (اللُّغة) المُعبِّرة عن هذه الأشياء، والدليل على ذلك إمكانيَّة ترجمة الفكرة المُعبَّر عنها بلغة معيَّنة إلى لغة أخرى دون أن تَفْقِد معناها.

• يتساوى جميع البشر فى مُدْرَكاتهم الحِسيَّة على الرغم من الاختلافات التى توجد فى الألفاظ الدالَّة على هذه المدركات بين لغة وأخرى.

• ومع ذلك لا يمكن إغفال حقيقة أن للغة أساسًا ثقافيًّا؛ إذ لا يمكن فصل لغة مجتمعٍ ما عن ثقافته فصلًا تامًّا؛ فكلُّ مجتمعٍ لديه معتقدات وعادات واهتمامات وقِيَم مختلفة وثوابت فكريَّة مختلفة، واللُّغة هى التى تعكس هذه الأشياء؛ من هنا نشأت الاختلافات بين لغات المجتمعات المختلفة فى التعبير عنها؛ لذا يمكننا إرجاع الاختلافات التى تكون بين اللغات إلى عوامل ثقافية.

• لا تقف اللُّغة عند مجموعة محدَّدة أو عند حدٍّ معين من المفاهيم؛ فعندما تتطوَّر الثقافات تواجهها مفاهيم وأشياء جديدة، تستخدم كل ثقافة الأدوات المتاحة لديها لتوليد كلمات جديدة تُعبِّر عن هذه المفاهيم الجديدة.

من هنا يمكننا تشبيه اللُّغة بالكائن الحى الذى ينمو ويتطور بنمو الثقافات وتطورها.

• تعدُّد اللغات يعنى تعدُّد الثقافات والحضارات، وتطوُّر لغة شعب ما يَدُلُّ على تطور حضارته، وجُمودها يدل على ركود هذه الحضارة؛ فاللُّغة تعكس تقدُّم الشعوب أو تأخُّرها. لذلك يأتى ثراء اللُّغة واتساعها دليلًا على عُمْق ثقافةِ أمَّةٍ ما، وفقرها وقِلَّة حصيلتها اللغويَّة دليلًا على ضُمور الحضارة وضعف الثقافة.

• يتعرَّف المرء من خلال تعلُّمه للغةٍ جديدة إلى شعبٍ جديد، وإلى جزءٍ جديد من الثقافة والتاريخ الإنسانىّ.

• للُّغةِ قوةٌ تأثيريَّة إقناعيَّة لا يُمْكِن إغفالها:

o يستخدمها السياسيون وأصحاب النفوذ؛ للسيطرة على عقول الناس من خلال الخُطَب الرنَّانة والألفاظ البرَّاقة الخدَّاعة التى تلعب بعواطف الناس وتُخدِّرهم.

o يستخدمها كذلك المُهْتَمُّون بالدعاية والإعلان؛ لحثِّ الجمهور على الإقبال على شراء سِلْعَة معيَّنة، أو العدول عن نمط سلوكى غير مقبول اجتماعيًّا.

o قد يصل ذلك ـ فى بعض الحالات ـ إلى أن يكون نوعًا من غسيل الدماغ أو البرمجة العقليَّة أو التنويم المغناطيسى، يُستخدَم فى نشر مبادئ وعقائد معيَّنة بين الناس، ومن ثم دفعهم لتبنِّى أفكار ومعتقدات وتوجُّهات معيَّنة، أو بعبارة أخرى: امتلاك وعيهم. على الرغم من ذلك لا يُمْكِن القول بأن جميع البشر يَقَعون ضَحِيَّة هذه القوة التأثيريَّة الإقناعيَّة للغة؛ فهذا أمر نِسْبىٌّ مرهون بعقول البشر أنفسهم، وبامتلاكهم الوعى الكافى لتمييز الخطأ من الصواب، والكذب من الحقيقة.

فكُلَّما كانت الأفكار المطروحة مُتناقِضَة وغير مُنْسَجِمَة مع الأفكار الموجودة بعقل الإنسان، كان دخولها إلى العقل ـ ومن ثم قبولها والاقتناع بها ـ أصعب؛ نظرًا لأن المقاومة ستكون شديدة بين الأفكار المطروحة والموجودة. أمَّا إذا كان عقل الإنسان فارغًا من الأفكار ومُفتقرًا إلى الوعى فسيكون دخولها إليه سهلًا دون أى مُقاوَمَة، حتى تستقر فيه وتصبح لديه بمنزلة الحقائق الثابتة.

إنَّ العلاقة بين اللُّغة والتفكير علاقة تفاعليَّة مُتبادَلة من حيث التأثير والتأثُّر، فكلٌّ منهما يؤثِّر فـى الآخَر ويتأثَّر بـه.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط