نورهان البطريق تكتب: كراكيب الذاكرة العاطفية
تتميز الذاكرة العاطفية بالتذكر الدائم والاحتفاظ بأدق التفاصيل إلى أطول فترة ممكنة إن لم تكن مدي الحياة، فالذاكرة العاطفية يغلب عليها طابع الحنين إلى الماضي، فهي تعيش في عالم من الذكريات تنسج خيوطها لتكون حدوتة من وحي خيالها تسكب بها كل ما كانت تتمنى أن تراه علي أرض الواقع، فهي رافضة الحدوتة الواقعية التى تكون قد انتهت بالفراق منذ عهد بعيد ، فمجرد التفكير في استيعاب الفكرة أو تصديقها قد يكون بمثابة الموت لأصحاب هذه الذاكرة، ولذلك يلجأون دومًا إلي بقايا الماضي وحطام الذكريات من أجل العيش واستمرار الحياة، فيصبحون أنصاف بشر فلا هم إلي الأحياء ينتمون ولا إلي الأموات يصنفون.
فالكراكيب أقسام داخل الذاكرة العاطفية: كراكيب أماكن، حيث ترتبط الذاكرة بالمكان دائمًا، فهناك أشخاص باتوا "ماضي وانتهى"، ولكن عند نمر بالمكان نسترجع الصورة كاملة بما تحتويه من أشخاص وأحداث، وكأن اللقاء كان أمس.
كراكيب زمان، فالوقت له تأثير قوي علي إحياء الذكري، فعندما تتكرر مناسبة في تاريخ معين فانه يقع صدي هذا اليوم علي أصحابه بمثابة كارثة ،لأنه لم يكن في حسابهم أن هذا اليوم الذي كان يحمل كثيرا من الأوقات الممتعة والأحداث الجميلة أن يتحول إلي ذكري مؤلمة توقظ كل هذه الاوجاع ،فيصبح يوما كالبركان ينتفض كل مافيه بعدما كان في حالة من السكون والتأقلم.
كراكيب المواقف، وهو من أقوي أنواع الكراكيب، لأننا دائما علي أتم استعداد لتذكر المواقف والأحداث، وقد يمتاز البعض بذاكرة فائقة لها القدرة علي تذكر الحوار وما دار آنذاك من أحاديث وانفعالات دون زيادة أو نقصان، لأنه شريط يمر أمام أعينهم يوميًا، فباتت عادة تتكرر ضمن روتين الحياة .....فكيف يتهيأ لهم النسيان إذن!
فالذاكرة اشبه بالسجن بلا قضبان، وكراكيبها هو السجان الذي يجلد صاحبها طوال الوقت ،فتأرجحه بين كراكيب الزمان تارة، وكراكيب المكان تارة أخري، و كل ما عليه فعله هو الاستسلام لها دون إرادة منه ،والانجراف وراء تيارها العارم بغير مقاومة أو صدام.
أصحاب الذاكرة العاطفية ليسوا ضعفاء، بل هم أشخاص تعاملوا مع الطرف الآخر في إطار علاقة أبدية، غير قابلة لترك والانسحاب، وهذا ما يتعارض مع طبيعة الحياة الإنسانية، فقوانين البشر تكمن بعض المواد التى تنص على الرحيل والاستغناء، هنالك يحدث الصدام بين اشخاص يطمعون في البقاء مع من يرغبون وبين واقع مرير يعترف بأننا فترات في حياة بعضنا البعض.
لذا علي هؤلاء الأشخاص الذين يمتلكون مثل هذه الذاكرة أن يتحرروا من أفكار المدينة الفاضلة وأن يمتثلوا لقانون الواقع، وألا يستسلموا لدوامة الذكريات، وأن يلتزموا بروشتة النسيان -باعتبارها أولى خطوات العلاج -حتى يتعافوا من إدمان البقاء وعلاقات لم يكن بمقدورها الاستمرار معهم إلي نهاية العمر، كما كانوا يزعمون .