في زمن أصبحت القسوة تملأ قلوب كثير من الناس وتسيطر على عقولهم وأفكارهم وأصبح الأخ بعيدًا عن أخيه لا يرق لحاله ، ولا يشعر حتى ببني وطنه أصبح مجردًا مما يشعره بإنسانيته وهو الإحساس بالآخــــر .
فالله حينما خلق القلب جعله موطن المشاعر والأحاسيس يَحن لأشخاص أو أماكن أو أشياء يتأثر بها فتملك عليه كل كيانه وتنفعل لها جميع جوارحه ، والإحساس بالآخرين خُلُق رفيع جعله الإسلام أحد مبادئه العظيمة وقيمه السامية فليس من الضروري أن تكون شاعرًا أو رسامًا أو فنانًا حتى تشعر بمن حولك فحينما تنظر في أحوال من حولك تري العجب تري طفلًا صغيرًا فقد أباه أو أمه ، فإذا نظرت بعقلك شعرت بأن ما ألمّ بالطفل شئ عادي ، أما إن نظرت بقلبك فسوف تشعر بأنه فقد شيئًا لا يعوض فقد حبًا وحنانًا وعطفًا ، والذي يموت من شدة الجوع لفقر أصابه ، والذي فقد عضوًا أو أكثر من أعضائه بسبب حرب أو عمل وكفاح ، وهذا الذي صارت حياته مهددةً فترك كل شئ حتى وطنه وأصبح شريدًا ليس له مأوى .............
قد تندهش من حديث الجمل الذي خاطب الرسول الرحيم (ص) وشكا حاله إليه من أن صاحبه يُجيعه ومع ذلك يرهقه في العمل فلو لم يكن النبي (ص) يشعر بمن حوله ليس بالأشخاص بل كل شئ حتى الحيوان والجماد لما شكا له الجمل فحينما أسمع الله النبي الكريم (ص) وأفهمه لغة الجمل شعر به ورقّ لحاله وأمر صاحب الجمل أن يتقي الله في هذا الحيوان الضعيف وأخبر (ص) أن امرأة دخلت النار وكان سبب دخولها أنها فقدت الشعور والإحساس فصار قلبها خاليًا من أدنى مشاعر الآدمية ليس لأنها ظلمت إنسانًا أو عذبته أو حتى قتلته أتدرون في ماذا دخلت النار ؟ في قطة نعم قطة عذبتها حبستها فلا هي أطعمتها وسقتها ولا تركتها تأكل من حشائش الأرض .
وعلى العكس تمامًا يذكر الحبيب النبي(ص) كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة وغيره " بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب منها ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له، قالوا يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر .
ولم تقتصر تلك المشاعر الراقية ولا الإحساس المرهف علي الإنسان والحيوان بل شملت الجماد وكلنا يعلم قصة الجذع الذي كان يخطب النبي (ص) عليه حتى أشارت عليه امرأة من الأنصار كان لها غلام نجّار أن يصنع له منبرًا يخطب عليه فلما كان يوم الجمعة ومر النبي (ص) بجانب الجذع الذي كان يستند عليه أثناء الخطبة وتجاوز الجذع وصعد المنبر الجديد وألقى السلام على الناس وأذن المؤذن، ثم بدأ في خطبته وفي أثناء الخطبة سمع الصحابة رضوان الله عليهم أنينًًا يشبه أنين الطفل الذي فقد أمه، وابتدأ صوت الأنين يرتفع، وأصبح الصحابة يلتفتون يمينًا ويسارًا ليروا من أين يأتي هذا الأنين ؟.. وإذا بالأنين يصدر من الجذع الذي كان النبي (ص) يخطب عنده قبل المنبر .
وظل النبي (ص) يخطب وأنين الجذع يزداد وهو يبكي على فراق رسول الله (ص) لم يطق الجذع فراق النبي الكريم صلوات الله عليه وسلامه .
فما كان من النبي إلا أن أوقف خطبته ونزل من على المنبر وأقبل على الجذع، وأخذ رسول الله يربت على الجذع ويمسح بيده الشريفة عليه كما تفعل الأم مع طفلها الذي يبكي، حتى أخذ الجذع يهدأ شيئًا فشيئًا حتى سكت، وضمه إليه .
وقال الإمام الشافعيُّ -رحمه الله-: "ما أعطى الله نبيًا مثلما أعطى النبي محمدًا ، فقيل له: أعطى عيسى إحياء الموتى، فقال الشافعي:" أعطى الله نبينا محمدًا حنين الجذع حتى سُمِعَ صوتُه، فهذا أكبر من ذلك" .
وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (آلله - وفي رواية-: والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إلحق، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رُوي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم، فقال: أبا هر ! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله! قال: اقعد فاشرب فقعدت فشربت، فقال: اشرب فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق لا أجد له مسلكًا، قال: فأرني، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة).
بعض الناس يشعرون بمن أمامهم فقط ولا يشعرون بالغائبين عنهم فالنبي العظيم (ص) يبين لنا النوعين من الإحساس يشعر بأبي هريرة رضي الله عنه حينما يراه على هذه الحالة بينما لم ينسى أهل الصُفّة وهم غائبين عنه حينما أُهدي له إناء اللبن .
وفي قوله تعالى: -" وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ" {التوبة:71}،يقول الشوكاني رحمه الله عند هذه الآية: أي قلوبهم متحدة في التوادد والتحابب والتعاطف بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله. فنسبتهم بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك.
ومن الأدلة كذلك قوله(ص):" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا ثم شبّك بين أصابعه". متفق عليه .
، ومنها أيضًا قوله (ص):" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". رواه مسلم .
ومنها قوله (ص)أيضًا: "المؤمنون تتكافؤ دماؤهم، وهم يد على من سواهم". رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني رحمه الله.
فهذه الأدلة كلها تدل على وحدة المسلمين وترابطهم، وأنه لا بد أن يهتم المسلم بشأن إخوانه فهم كالجسد الواحد ولا يتصور أن يهمل الإنسان يده أو رجله أو أي عضو من أعضائه فيتركه ولا يتحسس آلامه، إلا إذا كان أشل ميتًا، وبقدر إيمان المؤمن تتقد فيه تلك الجذوة ويتحرك فيه ذلك الإحساس، وقد قال النبي (ص): " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". متفق عليه .
فعلى المسلم أن يهتم بأمر إخوانه، ويسأل عن أخبارهم، ويعين ضعيفهم، وينصر مظلومهم، ويمنع ظالمهم، ويدعو لهم كما يدعو لنفسه، والذي لا يهتم لأمر إخوانه ولا يتأثر بما يصيبهم من فرح أو حزن إنما هو كالعضو الأشل الميت الذي لا يحس.
فالشعور بمن حولنا لا يقتصر على الشعور بأهلنا وذوينا بل يتجاوز كل ذلك ليشمل الجيران والأصدقاء والمعارف وكل من لهم علاقة بنا من قريب أو بعيد .
فهل أنت ممن يشعر بالآخرين ويشاركهم في أحاسيسهم ؟