الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لمحات من درس الشفهية (1)


لم يكن الخوض في درس الشفهية بدعة من الأمر ولا ذريعة حداثة غربية تنافست الألسن والأقلام تنقيبا فيه من أجل مواكبة كل وافد غربي جديد ، فعلى الرغم من ولوج العديد من المفكرين الغربين في درس الشفهية تحليلا 
وتقعيدا إلا أن الجهد العربي في هذا المضمار هو الأولى بالمراجعة و الدرس ، حيث نمى درس الشفهية على أصول عربية أولية تجلت ثمارها في قطاعات عدة من التاريخ العربي لعل أبرزها المباريات المنعقدة بين الشعراء في العصر الجاهلي وما تلاه من عصور النهضة الثقافية اللغوية ؛ فلم يكن للتدوين أو للأوراق المسطورة محلا يعتد به ومتداول في آنها؛ حيث كان البناء الشفهي للجملة والعبارة الأجدر بحفظ وتناقل الأفكار المسطور منها 
والمنظوم ؛ لجودة توظيفه ومهارة استخدامه.

و بعد أن جاء الإسلام بتعاليمه السمحة و توظيفه اللغوي المعجز بدا تعظيمه لدور الشفهية المستخدمة و خير شاهد على ذلك ما هو كأئن من إعجاز في النص القرآني المبارك ؛ فهذا قول الحق – سبحانه و تعالى - : ( بلسان عربي مبين) مستخدما آلة النطق دليلا على تناقل الوحي الإلهي ، و حينما تحدى – القرآن - عوامل التلاشى أو الفقد و النسيان الملازمة للفطرة البشرية ؛ قال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون) باعتبار ما سيكون مستقبلا؛ فالتحدي ناتج عن قدرة الخالق على حفظ كلماته المباركات المرتلة دون وسيلة حفظ مادية ممثلة في القرطاس والقلم ، ولعل هذا ما أعجز مناهضي الدعوة الإسلامية في مهدها عن الطعن في قدرته الجاذبة الهادية ، فهذا أحد رؤوس الكفر محاولا إشاعة التشتيت الفكري عن التعمق و سماع النص المبارك الفريد حينما قال : " إن عليه لحلاوة و إن عليه لطلاوة وإن أوله لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه". 

عبارة كاشفة عن العجز المبرر في طعن القوة الجاذبة للنص المبارك التي أعجزت أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء؛ مخاطبا أناس فطروا على الشفهية في ممارساتهم الحياتية وبنو على تراكيبها فكرا تعبر عن أسلوب حياتيهم.

فبدت أهمية الشفهية في كونها الآلية التواصلية الإقناعية للعقل البشري بعامة والعربي بخاصة وبما يتفق أيديولوجية المتلقي إلى أن جاء عصر التدويين والتسجيل.

وربما ينمو في الخاطر سؤالا يحاول فض إشكالية الكشف عن ماهية الآليات التقعيدية للعربية وممارساتها التي وصلت إلينا عبر أمهات الكتب ، أكانت قواعد مؤصلة للمادة الشفهية المتداولة أم لما هو محول إلى نص مكتوب.

والأصل في ظني كامن في كون التأصيل للعلوم التي لازمت حركة التدوين جاءت على سبيل البقاء والحفظ للتراث الذي ولد شفهيا لا الذي أحيل إلى نص مكتوب ؛ فصار التقعيد وفق أدبيات الحفظ مفتقدة للظرفية الزمانية 
والمكانية التي ولدت فيها النصوص.

الأمر الذي أحالة يكشف عن سر افتقاد ما هو فات من التراث الأدبي لجاذبيته – لدى المتلقي المعاصر - و بات غير متوافق نسبيا والعقلية الآنية وتجعل منه مادة تراثية غير قادرة على القيام بدورها التأثيري.

ولعل بات من المبرر لدي عله اتجاه طه حسين إلى فض قضية الانتحال في الشعر الجاهلي عبر المنتديات الثقافية والفكرية والتي كانت بالماضي من الصور الفكرية المشوشة وغير مفهومة المقاصد لما نالتها من تشتت في الآراء بين القبول والرفض وأنا إيذاء ذلك غير مؤهلا للتأييد أو الرفض إلى أن انتهجت درس الشفهية دراسة 
وتنقيبا.

إن التطرق إلى درس الشفهية من الأمور الكاشفة عن التمظهر الثقافي المعاصر والآني على السواء والكاشف عن التوجهات الفكرية و الثقافية التي قد ترمي إلى مقاصد أيديولوجية قد تحيل إلى تحولات سياسية وتطورات اجتماعية من خلال ممارساتهم الشفهية الموجهة بما يتوافق مع الظرفية المكانية والزمنية ومدى توافق المتلقي للقوة الجاذبة الشفهية.

وإذا ما دقق المتأمل في قوة الشفهية و تأثيرها على التغييرات الاجتماعية والسياسية في آن وما أفرزتها هيمنتها الجاذبة على الشخصية العربي بعامة و المصرية بخاصة ،لوجد أنه أسهم في إنتاج خطاب إعلامي جديد انحاز إلى العامية و ممارساتها اليومية عن الخطاب الإعلامي النخبوي حيث الآلية الممارسة في الإعلام العربي منذ أن بدى على الأسماع و المرائي ، الأمر الذي دفع أصحاب الرؤي التحليلية والتفسيرية إلى محاولات كاشفة عن الأسباب التي دفعت الكلاسيكية الإعلامية إلى التحور والتطور؛ فصارت قوة جاذبة للمشاهدين والمتابعين وخير شاهد و دليل مباريات البرامج الحوارية " التوك شو" القائمة على التنافسية والتفرد.

فباتت الشفهية وآلياتها الخيار الأفضل وفرس الرهان في دائرة الاستقاطب الإعلامي، وقد بدى ذلك من خلال تقارب المنهجية المتبعة شكلا و مضمونا في البرامج الحوارية على اختلاف توجهات منابرها التي لا تكاد تخلو من إطناب لبعض العبارات والجمل التي تتفاعل مع اللاشعور الجمعي تفاعلا يدفع إلى مقاصد وأهداف مقصودة .

ولم يقتصر الأمر في ظني على الممارسات العامية في الممارسات الشفهية ، فلم يك المقصود بالقوة الجاذبة للأسلوب الشفهي مقتصرا على العامية و ممارساته في آن ، بل يمتد الأمر في الفصحي وبناءها اللغوي ؛ فهناك الاشعار العربية الحديثة التي فرضت نفسها على الساحة الأدبية و التي قد تحتاج إلى مفاتح تكشف سرها لا تتفق وإنتاج الجاحظ أو السكاكي أو حتى عبد القاهر .

وفي ظني أن هناك بعض الأشعار التي بدت في شكلها كتابية فصيحة و في مضمونها شفهية ، تستشعر بجمال نظمها و دقة فكرتها ولكنها بالمقاييس التقعيدية القديمة تبدو بسيطة و مهمشة إذا ما أخضعت للآليات الشفهية دراسة و تحليلا.
 
وفي ذلك يتجلى لنا قصيدة الإسراء والمعراج للشيخ الشعراوي وهي القصيدة التي صعد بها على سطح الحياة الأدبية و التي تعتبر باكورة أعماله الشعرية والأدبية والتي لقت منذ مهدها الأول قبول واستحسان محدود لا يتفق 
وجودتها وذلك لأن متذوقوها وناقدوها وضعوها تحت النقد الكتابي الموروث .

وإذا ما دقق المتأمل في إنتاج الشعراوي الفكري يجد مزجا بين التراث و التطور الزمني بما يتفق وملابسات العصر، ولعل ذلك من أسباب التفرد والريادة.

فهذه هي اللمحة الأولى لعلم الشفهي التي تحاول لفت الانتباه إلى القوة الجاذبة للشفهية وقدرتها الاستقطابية التي ساهمت بما هو غير قليل في تحريك المثارات الفكرية والاجتماعية والسياسية في آن.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط