الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

تطور المنظور البلاغي عند مفسري القرن العشرين


نشأ علم البلاغة من أجل تفسير القرآن الكريم؛ فكانت أداة من أدوات المفسر تساعده على استنباط معاني الآيات وبيان أوجه الإعجاز القرآني في قوم برعوا في الفصاحة والبيان؛ رغم ذلك كان عجزهم بين في الإتيان بسورة واحدة من سور النص القرآني.

وكانت البلاغة مقياسا من المقاييس التي ساعدت المفسر على تقريب المعاني القرآنية فساعدته على استنباط الأحكام الفقهية وغيرها والوصول إلى المعاني التي يرجوها النظم القرآني، بل والاحتكام إلى هذا العلم من قبل المفسر عند تفسير النص القرآني في كثير من المسائل والقضايا الخلافية بين المفسرين.

ففي العصور الحديثة والنهضة الحاضرة تأثر الدرس البلاغي بمقدمات نفسية أو اجتماعية أو تربوية أو أثر البيئة أو الثقافة الوافدة وغيرها، وأبرز ما ميز البلاغة العربية عند مفسري القرن العشرين، أنها انحازت إلى بيان مراد النص القرآني المبارك مباشرة دون التطرق إلى الاصطلاحات البلاغية والأصول التقعيدية المؤصلة لها عبر التراث الفكري لهذا العلم إلا فيما قل وندر.

فقد أخذ المنظور البلاغي مناحي عدة وفق المحرك الأيديولوجي لكل مفسر على حدة، فجاءت وفق جماليات النص بعامة كما هو المنهج المتبع عند رواد المدرسة البيانية في التفسير، فقد آمن رائدها الأستاذ أمين الخولي بأهمية النظر إلى تفسير النص القرآني وفق جمالياته النابعة منه من خلال النص متخطيا جمالية الجملة التي باتت محل الاهتمام والدراسة عند المفسرين السالفين ولعل هذا التوجه يكشف عن إطلاع أمين الخولي على ما أرسى دعائمه العالم السويسري دي سوسير، وتأثرت بهذا المنظور تلميذته الدكتورة عائشة عبد الرحمن التي لم تنفصل عن التصور الأدبي الذي رسم منهجه أمين الخولي بيد أنها أضافت رؤيتها الأدبية من خلال دراسة اللفظة نفسها وتقلباته الدلالية عبر الظرفية الممارسة بها ليكشف التوجه الأدبي المنتهج من عائشة عبد الرحمن عن تأثرها بما أنتجه جاكبسون، الأمر الذي دفع بعائشة عبد الرحمن إلى انتقاد صنيع سالف المفسرين اعتمادها على منهجها الأدبي وإعجابها باشراقتها التفسيرية المستمدة من خلال دراستها للفظة القرآنية والتي بلا شك قادت نتائجها التفسيرية إلى نتائج جديدة.

كما شكل فن القول منظورا حديثا قام على أساس صور القرآن المعجزة، وفواصل متناسقة كما تصورها سيد قطب، الذي حاول التأصيل له مخاطبة الفطرة العربية التي آمنت بأهمية التصوير على النفس باعتباره أحد الركائز الناظرة في نقد الشعر قديما باعتباره المحرك للتوجهات النفسية للعربي، وجاء جمال القول ودلالات اللفظة التداولية في ذهن المتلقي كما اعتمدها الشيخ الشعراوي وفق أدبيات الشفهية في التعبير، تلك النظرة التي أهلت خواطر الشعراوي لأن تكون الأقرب إلى لباب وعقول الناس، لأنه جسر قواعد اللغة وأصولها في العلوم المختلفة عبر التراث الإسلامي لما هو موافق للظرفية الآنية وأيديولوجية متلقيه بالأسلوب الشفهي الأجدر على الجذب والإمتاع لما هو آني.

فلم تك النتائج البلاغية المتوصل إليها قِبل رواد التفسير في القرن العشرين بدعة من الأمر بل جاءت نتاج تطور درس البلاغة العربية عبر الأزمان؛ رغبة في الكشف عن جماليات النص بعامة، فمن خلال الاستقراء التاريخي لعلم البلاغة العربية تبين أن البلاغة ليست محصورة في البعد الجمالي بشكل صارم، بل إنها تنزع إلى أن تصبح علما واسعا للمجتمع، الأمر الذي بدى للرائي من خلال تفاوت مفهوم جمال الكلم في نتائج آراء المؤصلين؛ فقد كان بديهيا أن تتعدد المفهومات الخاصة بالظاهرة البلاغية تبعا لتعدد التصورات التي ارتهن إليها الخطاب البلاغي العربي، الذي تأسس داخل حقول معرفية متباينة في الرؤية والمنهج، وإن توحدت في بعض المقاصد مثل نظرية الإعجاز التي شكلت أساس كل بحث "عربي" في البلاغة.

ومن هنا كانت المعضلة التي تواجه الباحث في البلاغة العربية معضلة ضبط المفهوم وتحديد استعمالاته، فذلك مطلب يقتضي جهدا كبيرا وشاقا لتتبع المسارات المختلفة التي سلكتها البلاغة العربية، وتعريف التحولات العميقة التي رافقت ولادة مصطلح "بلاغة"، الذي حاطه كثير من الغموض والالتباس فيما يتصل بالجانب المصطلحي، وقد أسهمت في ذلك عوامل عديدة تأتي في مقدمتها الاعتبارات الإيديولوجية التي كان يقع الارتهان عليها في تشغيل مصطلح وإقصاء آخر.

فقد فطن القدماء إلى الخلط والتشويش الذين وسما توصيف الجاحظ للبلاغة فانتقدوه صنيع صاحب "نقد النثر" الذي كتب يقول معرضا بالمشروع البلاغي الذي حاوله الجاحظ في "البيان والتبيين":

"وقد ذكر الناس البلاغة ووصفوها بأوصاف لم تشتمل عليها، وذكر الجاحظ كثيرا مما وصفت به، وكل وصف منها يقصر عن الإحاطة بحدها".

كما وجدنا عند ابن سنان الخفاجي انتقادا لمحاولات القدماء حد البلاغة بحدود وجدها عند التحقيق غير صحيحة: "وقد حد الناس البلاغة بحدود إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست بالحدود الصحيحة"، أما ابن الأثير وهو من البلاغيين المتأخرين فقد كتب يقول في الفصل الذي عقده لـ "الفصاحة والبلاغة" من المثل السائر: "أعلم أن هذا باب متعذر على الوالج، ومسلك متوعر على الناهج، ولم يزل العلماء من قديم الوقت وحديثه يكثرون القول فيه والبحث عنه، ولم أجد من ذلك ما يعول عليه إلا القليل".

إن أقصى ما يمكن أن يجد الباحث عن حد لـ"البلاغة" في الموروث العربي، بعض إشارات مبثوثة في تضاعيف المدونات النقدية والبلاغية القديمة مداره على الإيماء إلى أن هناك "نظما" و"صياغة" و"تصويرا" و"نسجا" و"تعبيرا" دونما تدقيق للمفاهيم أو ترسيم للحدود، أما العثور عن حد للبلاغة في موروثنا العربي يكون جامعا مانعا، كافيا شافيا، فإنه يمثل بالنسبة لباحث بلاغي معاصر "أعز ما يطلب" بل "المنية والأمل" دونهما خرط القتاد، وهو ما عناه حمادي صمود بقوله إن "عدم التقييد بضوابط التعريف وانحصار مفهومه عندهم في استعراض الخصائص التي تحقق البلاغة، سيكون السمة الغالبة على تعريف البلاغة في كل مراحلها، ولن نجد صدى لأي محاولة تروم الوقوف على الحد الجامع المانع"، وهي ظاهرة وقع الانتباه إليها منذ القديم، يقول العسكري مثلا بعد أن أثنى على جهد الجاحظ في "البيان والتبيين" أشهر كتب البلاغة العربية: "... إلا أن الإبانة عن حدود البلاغة وأقسام البيان والفصاحة مبثوثة في تضاعيفه، ومنتشرة في أثنائه، فهي ضالة بين الأمثلة لا توجد إلا بالتأمل الطويل، والتصفح الكثير".

وقد ظلت التسميات الثلاث شائعة في المشرق والمغرب والممثلة في البيان، البديع والمعاني، وإن كانت قد تبادلت "المواقع بحسب الظروف التعليمية والثقافية والاجتماعية، ولكن هذا التبادل لم يكن إلا في عناوين الكتب، وأما داخلها فكانت تتعايش وتتفاعل وتتداخل، هكذا يجد المهتم "أسرار البلاغة"، ويعثر على "البديع"، ويواجه "البيان والتبيين"، ولكنه يجد في كل كتاب من هذه الكتب حديثا عن العلوم الثلاثة" في النص الشعري والنثري على السواء.

الأمر ذاته الذي بدى واضحا من خلال جهد مفسري القرن العشرين التفسيري الذي جاءت البلاغة العربية من خلالهم وفق تطورات أيديولوجية، وسوسيولوجية متباينة عن التعريفات التي أرسى دعائمها المؤصلين لشروحها والمقعدين لضوابطها؛ لتأتي إسهامات مفسري القرن العشرين في هذا الدرس وفق أطر ثقافية توافق أيديولوجيتهم الفكرية وهدى القرآن معا، حتى وإن لم تأت صريحة كما جاءت إلينا آنفا في جهد سالف المفسرين، إلا أن إشاراتهم التفسرية تكشف عن وعي تام بحركة البلاغة العربية وما انتابها من تأثير وتأثر بمقاييس البلاغة الحديثة؛ وعلى هذا فقد نظر مفسرو القرن العشرين في تفسيراتهم إلى علم البلاغة من وجوه شتى؛ فوافقت غرضهم التفسيري مستندين على أسس علمية توافق اتجاهاتهم التفسيرية، ليعطوا دراسا تفسيريا يكشف عن تطور المنظور الجمالي الذي بدى محطما للقوالب الاصطلاحية القديمة، وهاضما لجهد فكري كشف عن فن القول شعرا ونثرا.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط