الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لقطات بمستشفى بالنمسا


كان عليّ أن أكون بالمستشفى التي تبعد عن محل إقامتي حوالي مائة كيلو متر في تمام الساعة العاشرة صباحا، وحينما وضعت عنوان المشفى على الخريطة كانت الرحلة سوف تستغرق الساعة وسبعة عشرة دقيقة، ما أكد أن هناك أعمالا في الطريق، ومع ذلك استقللت سيارتي بعد ضبط جهاز الخرائط في حوالي الساعة الثامنة إلا ربع، ما جعل سؤالا يلح على ذهني، لماذا أخرج دائما هكذا مبكرا؟! لتأخذني الذاكرة إلى مصر، وخوفنا الدائم من تقدير توقيتات المواصلات التي ربما يكون هو السبب الأصيل في استبكاري دائما في كافة رحلات السفر، خاصة وأني من أبناء الريف هؤلاء الذين تملكهم الخوف مرات عديدة أثناء سفرهم - خاصة للقاهرة، وعلى وجه التحديد لو ارتبط الأمر بمواعيد محددة كميعاد طائرة السفر بسبب الطرق والمواصلات.

سيدة عجوز
كنت أمام باب المشفى في الوقت الذي تحدد في الخرائط تماما حيث ثبَّتّ عداد السيارة – آليّا - في كل مسافة السفر على السرعة المطلوبة تماما، بحيث لا يكون لي دخل فيها، منعا لحدوث غرامات!

هذا الوصول المبكر سمح لي أن أعكف على "كافيتريا" المشفى لاحتساء فنجان القهوة الصباحي الذي أفضل أن احتسيه ببطيء شديد، حيث لا أجد أية متعة حال تناولت القهوة مسرعا، طلبت من النادلة نوع القهوة الذي أفضله وكان عليّ أن انتظر لأحمل صينية القهوة، واخترت منضدة قريبة من باب الخروج في المقهى الخالي تماما من الزبائن؛ فاليوم يوم عمل ومازلنا في الصباح، فالمرضى في أسرَّتهم ويتلقون علاجهم والزيارة لا تكون في مثل ذلك الوقت.

جلست مع فنجاني، وأمسكت هاتفي الذي لا يفارق في الأغلب الأعم يدي: للقراءة والكتابة، فإذا بسيدة عجوز تشي تجاعيدها أنها تخطت الثمانين من العمر، تستأذنني - إن لم يكن هناك ضيق - أن تجلس على نفس المنضدة، وبسلوك "الجنتلمان" وقفت وأشرت لها بيدي لتتفضل الجلوس، لم أنتظر طويلا لأتلقى السؤال التقليدي، حيث ملامحي ليست نمساوية: السؤال التقليدي: من أي بلد حضرتك؟ كانت إجابتي، قبل أن تنتهي العجوز من السؤال، الذي أصبح متوقعا، أنا من مصر. ونظرت لوجهها لكي أرى نظرة الاندهاش التي أراها دائما بعد هذه الإجابة، وقد كان.

سألتني ثانية: هل تقيم بالنمسا منذ فترة بعيدة؟ وكانت إجابتي ونظرتي مازالت مصوّبة ناحية العجوز في انتظار الاستغراب وليس الاندهاش: أكثر من عشرين سنة، وحدث ما انتظرت، هناك سؤال ثالث نخبره جيدا يلقَى بنبرة حيادية إن لم تخن قائله قدراته التمثيلية: لماذا جئت إلى النمسا؟ وقد كان، ولم تكن العجوز بارعة بالتمثيل فجاء السؤال كأنه الطرد من البلد، فابتسمت لها، وقلت: العلاقة التي تربطنا - نحن معشر الأجانب - ببلدكم الجميل هي علاقة منفعة متبادلة، فنحن نعمل في هذا البلد في كل أنواع المهن، وبذلنا جهدا هائلا مساهمين في بناء هذا البلد، وفي ذات الوقت دفعنا الضرائب على كل " شلن أو يورو" في دخلنا، فما كان من السيدة إلا أن قالت هذا هو النموذج الذي نريده، أما الذين يأتون إلينا ولا يعملون ففي ذلك ظلم لنا، نحن نرى جيدا، فأنت رجل أجنبي وترتدي تي شيرت ذات ماركة عالمية وفي يدك هاتف غالي الثمن، أنا لا أستطيع أن أقتنيه، فقلت لها: وأنا هنا – أعني بالمستشفى – الآن وأنا في بداية العقد الخمسين لكي أتعالج من مشاكل ضخمة في العمود الفقري نتيجة لأنني كنت أعمل ستة عشر ساعة في اليوم، سنوات طوال مضت قبل أن يغادرنا الشباب وتداهمنا الآلام.
كان ميعاد أن أسجل نفسي بالمشفى على وشك فاستأذنت السيدة العجوز على أمل أن نكمل مناقشتنا في وقت قريب، لتعرض لي رأيها السلبي عن الحكومة النمساوية اليمينية المتشددة على الأجانب والتي تراها هي حكومة ضعيفة، مرتعشة اليد، لا تعمل لمستقبل أبناء دولة النمسا وتخاف من أوروبا وأمريكا.

الحجاب بالنمسا
كانت الغرفة التي نزلت بها فيها أربعة أسرَّة، ولها بالكونة بطولها، وكانت المستشفى كما هي كل مستشفيات النمسا جميلة، تم بناؤها على قمة أحد جبال سلسلة الألب الممتدة بالنمسا، وكانت تطل على أحد الجبال - حيث أن النمسا بلد جبلية - الذي مازالت تكسو أعلاه ثلوج في طريقها للذوبان نتيجة درجة الحرارة الآخذة في الارتفاع كلما بعدنا عن فصل الشتاء.
كان بالغرفة زميلان: نمساوي وتركي، الأول في الثالثة والسبعين من العمر والآخر يغادر العقد الرابع توا، كلاهما تميز بروح الدعابة، التي تباينت بتباين الثقافة وأسلوب الحياة، حطمنا حواجز البدايات بسرعة هائلة، كان زميلي التركي معه سجادة صلاة، ويحرص على أدائها، بعد أن حدد اتجاه القبلة، ولم أحتج أنا للسجادة، حيث كنت أصلي وأنا جالس على كرسي، زميلنا النمساوي الذي اشتعل رأسه شيبا، واشتعل قلبه حماسا، كان أفضلنا صحة، وكان يطمئن – بالسؤال – علينا دائما، وكان يملك قلبا عطوفا، تلمحه في عينيه المتأثرة على أي ألم – وما أكثره - أبديه.

في الحوارات التي دارت بيننا كشف العجوز النمساوي عن غضاضة كبيرة في القلب، وغصة هائلة في الحلق، كان سببها هو تلك القيم النمساوية المهدرة في الجيل الجديد الذي تسيطر عليه الثقافة الأمريكية التي غزت النمسا وأوروبا، وما من بد من التطرق للإسلام، الذي نعتنقه، والذي هو في أبشع صورة في المخيلة الجمعية للعالم الغربي، حاولت أن أشرح له أنني أتفهم بعضا منه خاصة وأن القوات العثمانية وقفت على أبواب فيينا، وفي ذات الوقت حاولت أن أبين له أن هناك – ليس في الإسلام فحسب – من استخدم الدين لتحقيق أغراض ليست من الدين.

كان زميلي التركي قد أدى فريضة الحج، ويرى في ذلك سببا إضافيا ليكون مسلما "حقيقيا" – من وجهة نظره بالطبع. فأخذ يقص على العجوز النمساوي كيف أسلم أحد النمساويين، وكيف جاء إلى أحد المساجد التركية بفيينا وأراد أن يعلن إسلامه فأخبروه!! بأن عليه أن ينطق بالشهادتين، وكيف أن ذلك خلق مشكلة من زوجته، وأخذ يحكي قصة طويلة معتادة تنتهي حتما بأن الزوجة هي الأخرى تعلن إسلامها وسط تكبير الحاضرين بالمسجد!.

لم تؤثر هذه القصة كثيرا في العجوز النمساوي الذي انتقل للحديث عن برنامج تليفزيوني شاهده يرفض الإسلام السياسي – كان ذلك الرفض من الساسة النمساويين الذين كانوا يناقشون الموضوع بالبرنامج، ورفض العجوز هذا الطرح، وهنا تدخلت لأني أعرف ماذا يعني تعبير الإسلام السياسي، واظهرت له المقصود من ذلك. وأن هذا الإسلام السياسي هو أحد أسباب ما تعانيه المنطقة العربية، وأن الساسة النمساويين والغربيين على وجه العموم لهم مع هذا التيار مواقف متباينة، وأن هناك من يرى فيه تهديد كبير لقيم المجتمعات الغربية، وهناك من يستخدمه واهما نفسه أنه يستطيع ترويضه.

كان للهوية نصيب من المناقشة في حواراتنا، ولم يبد فيها الزميل التركي بشيء، حيث أن مستوى تعليمه، وثقافته لا تسمح بالولوج في مثل هكذا موضوع، وإن رأيته يتمسك كثيرا بهويته التركية والإسلامية.

رأى الزميل النمساوي أن الحجاب يمثل رمزا للهوية الإسلامية، كما أن الدولة النمساوية تعترف بالديانة الإسلامية ديانة رسمية في البلاد، ولم أشأ الدخول معه في مفهوم الفرض أو الواجب ولا السنة المؤكدة ولا السنة غير المؤكدة، فذلك غير مهم بالنسبة له، ولكني سألته عن رأيه في دعوات منع الحجاب على غرار منع النقاب، فكانت إجابته مبهرة، حيث أكد أن سيدات وفتيات النمسا – وقد عاصرهن - منذ ستين عاما كن يغطين رؤوسهن، وأن ما نراه اليوم هو نتاج للثقافة الجديدة، التي لا يرفضها كلية، كما أنه يرى أنه ليس من العدل أن يتم منع الحجاب، لأنه من قبيل الحرية الشخصية، بالإضافة لكونه رمزا للهوية الإسلامية التي من حق أتباعها أن يحافظوا عليها.

ملاحظة: لم ألتق السيدة العجوز لتكملة الحوار المفتوح بيننا حتى كتابة هذا المقال.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط