الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان


بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين.. هذه سلسلة مقالات تهيبت كثيرا قبل كتابتها وترددت أكثر، ليس فقط لأنها عن كبار الأئمة والفقهاء العظام في الإسلام، وهم من هم في التاريخ الإسلامي وعلى مدى الدهر. ولكن لأنها إبحار في سير أئمة وفقهاء عظام طالما قرأت عنهم وتدبرت سيرهم، وأدوارهم الجليلة في تبيان الحق وإزهاق الباطل والرد على كل المدّعين والمضللين في التاريخ الإسلامي..

فالاقتراب منهم اقتراب من شموس عالية يعرفها القاصي والداني ويجب أن يكون ذلك بعشق وحذر.

فهم رجال وقفوا للدين ونذروا حياتهم للدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة، فأعطاهم الله من فضله علما وحكما وآتاهم من حيث لا يعلمون مهابة وخلودا. فليست الكتابة عنهم أو عن سيرهم كأي كتابة ولكن لها وقع خاص في النفس.

والفقهاء العظام في التاريخ الإسلامي معروفون معرفة الشمس بين أكثر من مليار ونصف مسلم، لكن لا مانع لمحب فقير مثلي ومثل غيري أن يتقرب من سيرهم العطرة خلال شهر رمضان الكريم وأن يتدارس صفحات من مواقفهم المشهودة ففيها عبرة وعظة.

من هنا جاءت كتابتى وانتهى ترددي وعلى الله قصد السبيل.

ولا يمكن لأي محب للفقهاء العظام في التاريخ الإسلامي أن يبدأ الكتابة عنهم أو يتذكر أدوارهم قبل أن يبدأ بسيرة الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ (80-150 هـ/ 699-767م) فقيه المسلمين وإمامهم، وأول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي. والذي اشتهر بعلمه الغزير وأخلاقه الحسنة، حتى قال فيه الإمام الشافعي: "من أراد أن يتبحَّر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة"، ويُعد أبو حنيفة من التابعين، فقد لقي عددًا من الصحابة منهم أنس بن مالك، وكان معروفًا بالورع وكثرة العبادة والوقار والإخلاص وقوة الشخصية.

كان أبو حنيفة يعتمد في فقهه على ستة مصادر هي: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، والاستحسان، والعُرف والعادة.

وُلد بالكوفة ونشأ فيها، وقد كانت آنذاك إحدى مدن العراق العظيمة، ينتشر فيها العلماء أصحاب المذاهب والديانات المختلفة؟ انصرف الإمام أبي حنيفة النعمان إلى طلب العلم، وصار يختلف إلى حلقات العلماء، واتجه إلى دراسة الفقه بعد أن استعرض العلوم المعروفة في ذلك العصر، ولزم شيخه حماد بن أبي سليمان يتعلم منه الفقه حتى مات حماد سنة 120 هـ، فتولى أبو حنيفة رئاسة حلقة شيخه حماد بمسجد الكوفة، وأخذ يدارس تلاميذه ما يُعرض له من فتاوى، حتى وَضع تلك الطريقةَ الفقهيةَ التي اشتُق منها المذهب الحنفي.

قيل في علم الإمام أبي حنيفة النعمان الكثير، فقال وكيع بن الجراح وهو شيخ الإمام الشافعي: "كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان يؤثر رضا الله تعالى على كل شيء، ولو أخذته السيوف في الله تعالى لاحتملها".

وقال الإمام الشافعي: سئل الإمام مالك بن أنس: "هل رأيت أبا حنيفة وناظرته؟"، فقال: "نعم، رأيت رجلًا لو نظر إلى هذه السارية وهي من حجارة، فقال إنها من ذهب لقام بحجته".

وقال الإمام الشافعي عنه: "من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة، ومن أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان"، وزاد على ذلك قوله المأثور "من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، كان أبو حنيفة ممن وُفق له الفقه".

وقال الإمام العظيم أحمد بن حنبل عنه: "إن أبا حنيفة من العلم والورع والزهد وإيثار الآخرة بمحل لا يدركه أحد، ولقد ضُرب بالسياط لِيَليَ للمنصور فلم يفعل، فرحمة الله عليه ورضوانه"

وكان الإمام أحمد كثيرًا ما يذكره ويترحم عليه، ويبكي في زمن محنته، ويتسلى بضِرَب أبي حنيفة على القضاء. وقال أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: «لم يصح عندنا أن أبا حنيفة رحمه الله قال: القرآن مخلوق"، فقلت: "الحمد لله يا أبا عبد الله، هو من العلم بمنزلة"، فقال: «سبحان الله! هو من العلم والورع والزهد وإيثار الدار الآخرة بمحل لا يدركه فيه أحد، ولقد ضُرب بالسياط على أن يلي القضاء لأبي جعفر فلم يفعل".

وقال عبد الله بن المبارك: "رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فعبد العزيز بن أبي روّاد، وأما أورع الناس فالفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فسفيان الثوري، وأما أفقه الناس فأبو حنيفة"، ثم زاد "ما رأيت في الفقه مثله". وامتدحه عبد الله بن المبارك بعدة أبيات خالدة يقول فيها:

رأيت أبا حنيفة كل يوم يزيد نبالة ويزيد خيرًا

وينطق بالصواب ويصطفيه إذا ما قال أهل الجور جورًا

يقائس من يقايسه بل فمن ذا تجعلون له نظيرًا

رأيت أبا حنيفة حين يؤتى ويُطلب علمه بحرًا غزيرًا

إذا ما المشكلات تدافعتها رجال العلم كان بها بصيرًا

كما أثنى الشيخ أبو زكريا السلماسي على أبي حنيفة فقال:

فأبو حنيفة النعمان له في الدين المراتب الشريفة، والمناصب المنيفة، سراج في الظلمة وهَّاج، وبحر بالحكم عجَّاج، سيد الفقهاء في عصره، ورأس العلماء في مِصره، له البيان في علم الشرع والدين، والحظ الوافر من الورع المتين، والإشارات الدقيقة في حقيقة اليقين، مهَّد ببيانه.

روي عن أخلاق أبى حنيفة النعمان الكثير مما يثير العبرة والتدبر ويدخل في النفس الورع والايمان، فقد كان أبو حنيفة ضابطًا لنفسه، مستوليًا على مشاعره، لا تعبث به الكلمات العارضة، ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، وكان يقول: "اللهم من ضاق بنا صدره، فإن قلوبنا قد اتسعت له". ويُروى أنه قال له بعض مناظريه: "يا مبتدع يا زنديق" فقال: "غفر الله لك، الله يعلم مني خلاف ذلك، وإني ما عدلت به مذ عرفته، ولا أرجو إلا عفوه، ولا أخاف إلا عقابه"، ثم بكى عند ذكر العقاب، فقال له الرجل: "اجعلني في حل مما قلت"، فقال: رحمه الله "كل من قال في شيئًا من أهل الجهل فهو في حل، وكل من قال في شيئًا مما ليس في من أهل العلم فهو في حرج، فإن غيبة العلماء تُبقي شيئًا بعدهم".

وروى الحسن بن إسماعيل بن مجالد عن أبيه، قال: كنت عند هارون الرشيد إذ دخل عليه أبو يوسف، فقال له "صف لي أخلاق أبي حنيفة"، فقال: "كان والله شديد الذب عن حرام الله، مجانبًا لأهل الدنيا، وطويل الصمت دائم الفكر، لم يكن مهذارًا ولا ثرثارًا، إن سُئل عن مسألة عنده منها علم أجاب فيها، ما علمته يا أمير المؤمنين إلا صائنًا لنفسه ودينه، مشتغلًا بنفسه عن الناس لا يذكر أحدًا إلا بخير". فقال هارون الرشيد: "هذه أخلاق الصالحين".

كان أبو حنيفة النعمان مخلصًا في طلب الحق، وكان لإخلاصه لا يفرض أن رأيه – رحمه الله- هو الحق المطلق الذي لا يشك فيه، بل كان يقول: "قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا". وقيل له: «يا أبا حنيفة، هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه"، فقال: "والله لا أدري لعله الباطل الذي لا شك فيه". وكان أبو حنيفة لإخلاصه في طلب الحق يرجع عن رأيه إذا ذَكر له مناظرُه حديثًا لم يصح عنده غيره ولا مطعن له فيه، أو ذكرت له فتوى صحابي كذلك.

وهذه هى أخلاق العلماء والفقهاء العظام، لا تعرف التعصب ولا التشدد، ولا جبر فيها ولا قهر ولا فرض رأي.

اتصف أبو حنيفة النعمان بقوة الشخصية، والنفوذ والمهابة، والتأثير في غيره بالاستهواء والجاذبية وقوة الروح.

رُوي عنه أنه قال: «آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالًا- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.

يُسمى المذهبُ الحنفي مذهبَ أهل الرأي، نشأ بالكوفة موطن الإمام أبي حنيفة، ثم تدارسه العلماء بعد وفاة أبي حنيفة ثم شاع من بعد ذلك وانتشر في كل البقاع الإسلامية، فكان في مصر والشام والعراق، ثم اجتاز الحدود فكان في الهند والصين، حيث لا منافس له ولا مزاحم، ويكاد أن يكون هو المنفرد في تلك الأصقاع إلى الآن.

روى عن صفته الشكلية رحمه الله، أن الامام الإمام أبو حنيفة النعمان كان أسمرَ اللون مع ميل إلى بياضه، ربعةً من الناس، إلى الطول أقرب، جميلَ الصورة، مهيبَ الطلعة، طويلَ اللحية، وقورًا، يتأنق في ثوبه وعمامته ونعليه، حسنَ المنطق، حلوَ النغمة فصيحًا، كثيرَ التطيب يُعرف به إذا ذهب وإذا جاء، نحيفًا "ما أبقى عليه خوفه من الله تعالى وطول مراقبته وكثرة عبادته فضلًا من لحم بَلْه من شحم".

قابل الإمام أبو حنيفة النعمان في حياته محنتان ، فيروى أنه لما خرج زيد بن علي زين العابدين على هشام بن عبد الملك سنة 121هـ كان أبو حنيفة من المؤيدين للإمام زيد، وقد كانت هناك فتن عظيمة في هذا العصر فقال أبو حنيفة: "ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدر»، ويُروى أنه قال في الاعتذار عن عدم الخروج معه: "لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام حق، ولكن أعينه بمالي، فبعث إليه بعشرة آلاف درهم". وانتهت ثورة الإمام زيد بقتله سنة 132هـ، كما قتل ابنه يحيى في خراسان. ولقد كان لزيد بن علي منزلة في نفس أبي حنيفة، وكان يُقدِّره في علمه وخلقه ودينه، وعدَّه الإمام بحق، وأمده بالمال، ثم رآه يُقتل بسيف الأمويين، ثم يُقتل من بعده ابنه، ثم من بعده حفيده، فأحنقه كل ذلك.

ومما يروى في حياته رحمه الله، كان يزيد بن عمر بن هبيرة والي الكوفة آنذاك، فأرسل اليه يريد أن يجعل الخاتم في يده، ولا ينفذ كتاب إلا من تحت يد أبي حنيفة، فامتنع أبو حنيفة عن ذلك، فحلف الوالي أن يضربه إن لم يقبل، فنصح الناسُ أبا حنيفة أن يقبل ذلك المنصب، فقال أبو حنيفة: "لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يُكتب دمُ رجل يُضرب عنقُه وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبدًا.

فحبسه صاحب الشرطة، وضربه أيامًا متتالية، فجاء الضارب إلى الوالي وقال له: "إن الرجل ميت"، فقال الوالي: "قل له: تخرجنا من يميننا؟"، فسأله فقال أبو حنيفة: "لو سألني أن أعد له أبواب المسجد ما فعلت"، ثم أمر الوالي بتخلية سبيله، فركب دوابه وهرب إلى مكة وكان هذا في سنة 130هـ. ولقد وجد في الحرم المكي أمنًا، فعكف على الحديث والفقه يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس، والتقى أبو حنيفة بتلاميذه فيها، وذاكرهم علمه وذاكروه ما عندهم، وظل مقيمًا بمكة حتى صارت الخلافة للعباسيين، فقدم الكوفة في زمن أبي جعفر المنصور.

اما محنته الثانية ووفاته ، فجاءت في العصر العباسي عندما دعاه أبو جعفر المنصور ليتولى القضاء فامتنع بسبب ظلم العباسيين وجبروت الخليفة المنصور، فطلب منه أن يَرجع إليه القضاة فيما يشكل عليهم ليفتيهم فامتنع، ويروى أن أبا جعفر المنصور حبس أبا حنيفة على أن يتولى القضاء ويصير قاضي القضاة، فأبى حتى ضُرب مئة وعشرة أسواط، وأخرج من السجن على أن يلزم الباب، ومات بعد هذه المحنة.

كانت وفاته في بغداد، ودفن في مقبرة الخيزران، وقبره هناك مشهور يُزار، وصحَّ أن الإمام لما أحس بالموت سجد، فمات وهو ساجد. وشيعت بغداد كلها جنازته.

وقال صدقة المقابري: لمَّا دُفن أبو حنيفة في مقابر الخيزران سمعت صوتًا في الليل ثلاث ليال.

لقد زان البلاد ومن عليها إمام المسلمين أبو حنيفة

فما بالمشرقين له نظير ولا بالمغربين ولا بكوفة

ويأتيكم بإسناد صحيح كآيات الزبور على الصحيفة

رحم الله الامام أبو حنيفة النعمان جراء ما قدمه للاسلام وجراء فقهه العظيم الذي شاء له الله أن يدرس ويؤخذ منه الى يوم الدين. إنها بضع سطور في حب أبي حنيفة في هذا الشهر الكريم وفي حب أقرانه نفعنا الله بها.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط