الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ملوك الغباء.. عباقرة صغار


طفل صغير، لم يتجاوز الثامنة من عمرة بعد، رغم عبقريته الفنيه، يعاني خللًا عقليًا متطورًا، جعله لا يتقن القراءة والكتابة، كثيرًا ما يطرده المدرسين من الفصل، أو يضربونه بمنتهي القسوة علي أطراف أصابعه، أدمت تلك الضربات قلبة الصغير قبل أن تدمي يدية، ما جعله يكره تلك المدرسة، بل ما يتعلق بالتعليم برمته، هرب كثيرًا متجولًا في شوارع المدينة القاسية، والتي رغم قساوتها كانت أكثر رقة من ذلك العالم الذي ينتمي إليه.

طفل صغير، لم يكد يبلغ من العمر ما يجعله يفهم، لماذا لقبه معلموه بـ"ملك الأغبياء"، لماذا لا يدركون أنه يعاني مرضًا لم يدرك حتي معناه، "الديسلكسيا" dyslexia، مرض جعله يجد صعوبة في القراءة والكتابة، صعوبة في الإدراك البصري، صعوبة في تلقي العلم وسط محيط لا يقدر حالته، محيط لا يتعامل معه إلا من منطلق أنه غبي، فاشل، كسول، مجنون، لا يعيش حياته الخاصة كطفل، فقرر الإبتعاد عن الجميع، حتي أطفال شارع منزله، تجنبهم، رفض اللعب معهم، بل إفتعل الكثير من المشاكل، حتي والدة لم ينصفه، طرده من رحمته، أرسله إلي مدرسة داخلية بعيدة بحثًا عن حل لحالته.

طفل صغير، بائس، كثيرًا ما يتسائل، لماذا يفشل في القراءة والكتابة، لماذا يختلف عن أشباهه من الأطفال، هل يستحق الرسوب في كل المواد، أسئلة جعلت عقلة المُصاب بـ"الديسلكسيا" يضطرب بشكل أكبر، حاول كثيرًا أن يقنعهم أنه ليس بفاشل، ليس بغبي، فقط عقلة الصغير لا يتقن تلك القدرات القائمة علي الحفظ والتكرار، وأنه يفضل طريقة أخري لا يتقنها هؤلاء المعلمين، طريقة تعتمد علي التفكير والإبداع، فذلك الطفل فنان قادر علي رسم أفكاره بأسلوب يبلغ من الحرية ما لم يفهمة كل من قابله.

رجل ناضج، فنان بطبعه، عاش حياة لم تختلف كثيرًا عن حياة ذلك الطفل الصغير، قاسي الأمرين من مدرسين لم يفهموا طبيعه عقلة حينما كان صغيرًا، فقد أُصيب يومًا بذاك المرض، "الديسلكسيا"، ولكنه نجا، فقد كافح كثيرًا، جاهد، تعلم، ليُصبح في نهاية المطاف متخصصًا في فن الرسم، ثم عمل مدرسًا للأطفال، إختار أن يمارس عمله في تلك المدرسة الداخلية، والتي استقبلت مؤخرا ذلك الطفل الصغير، ولأنه عايش ما يعايشه، فهم فورًا أنه طفل ذو طبيعة خاصة، وأن إضطراب عقله يجعله يكتب الحروف بطريقة مقلوبه، وأنه يعاني من مرض يُسمي علميًا "عُسر القراءة"، أو الديسلكسيا.

رجل ناضح، فهم أن هذا الطفل يُعاني كثيرًا، لذا قرر أن يعالجه، ولكن بالطريقة التي يشعر من خلالها أنه ليس مريضًا، ليس مختلفًا، ولكنه متميز دون غيره من أطفال جيله، وأن جل عظماء التاريخ كانوا يعانون من هذا "الديسلكسيا"، وأن عقول مثل ألبرت أينشتاين، ليوناردو دافنشي، توماس أديسون، بابلو بيكاسو، والت ديزني، آجاثا كريستي، كانت تعاني عُسرًا في القراءة، وأن حتي أستاذة الذي يقف أمامه اليوم كان مثلهم، قبل أن يتغلب علي هذا "الديسلكسيا" اللعين.

منذ أكثر من عشرة سنوات مضت، وتحديدًا عام 2007، أخرجت السينما الهندية ذلك العمل العظيم، "تاري زمن بار"، أو "نجوم علي الأرض"، ذلك العمل البوليودي الذي أبدع في كتابته السيناريست الكاتب "أمول جوبت"، والذي قدمه بمساعدة زوجته، محررة السينما الهندية، ديبا بهاتيا، وقام بإخراجه وتمثيله الفنان "عامر خان"، والذي لعب فيه دور المدرس "رام شانكار نيكوم"، في حين لعب دور الطفل "إيشان"، وقام بدروة بمنتهي البراعة الفنان الصغير "دارشيل سفاري".

كم "إيشان" في مصر؟، كم طفل يعيش بيننا يعاني عُسر القراءة؟، كم ضحية قضي عليها هذا "الديسلكسيا" اللعين، وكم من غبي إدعي أنه مُعلم لم يكتشف مثل هذا الـ"إيشان" في فصول مدارسنا؟، طفل لا يعاني غباء أو فشل في تلقي علومه، ولكنه يعاني من ضعف القدرة على فهم اللغة المكتوبة، وأن هذا المرض اللعين يؤثر بشكل كبير علي الطريقة التي يفهمها المخ، تلك الإشكالية أكدت الدراسات، أنها أضحت تنتشر مؤخرًا بين أطفال المدارس، حتي أنهم قالوا أنها تُصيب ما يقرب من 50% من أطفال المدارس الأمريكية.

ماذا عن أطفالنا في مصر، هل لدي خبراؤنا في مجالات التعليم والتعلم، ما يجعلهم قادرين علي فهم، بل والتعامل مع مُصابي الـ"ديسلكسيا"، هل يمتلكون إحصاءات رسمية بعدد أطفالنا المُصابون به، هل يفهمون أعراضه، والتي تختلف وفقا لشدته، ووفقًا لعمر الطفل المُصاب، فأطفال ما قبل المدرسة، يختلفون عن أطفال المدارس الإبتدائية المبكرة، كما يختلفون عن أطفال المراحل النهائية للإبتدائية، وإن كانوا يتفقون في صعوبه ممارسة اي شيء له علاقة بالتعليم، كصعوبة تعلم الأبجدية، وصعوبه الربط بين الأصوات والحروف التي تمثلهم، وصعوبة تحديد أو توليد كلمات مقفية، وصعوبة تجزئة الكلمات إلي الأصوات الفردية، وصعوبة استرجاع كلمة أو مشاكل التسمية، وصعوبة في تعلم فك شفرة الكلمات، ما يؤدي إلي القراءة البطيئة أو غير الدقيقة.

منذ ما يقرب من 140 عام علي اكتشاف الـ"ديسلكسيا"، حينما تعرف علية الطبيب الألماني "أوزوالد بيركان" في 1881 ميلادية، قبل أن يُطلق علية مواطنة طبيب العيون "رودولف برلين" مصطلح عُسر القراءة، وذلك في عام 1887 ميلادية، وبعد أقل من عشرة سنوات، وتحديدًا عام 1896، نشر "جورج برينجل مورجان" وصفا لاضطراب تعلم القراءة في المجلة الطبية البريطانية، وهو تعذر القراءة الخلقي، وطيلة أكثر من قرن تواصلت تلك الأبحاث لفهم هذا الخلل العقلي، ساهمت في فهمه، بل وتوصلت إلي طرق حديثة للتعامل معه، ما أدي إلي إنقاذ الكثير من العقول، والتي كانت مؤهلة للضياع في عالم من النسيان.

"الطفل المصري هو الأذكي بين أطفال العالم حتي ستة سنوات".. عبارة كثيرًا ما نرددها فخرًا دون محاولة الإيجابة علي السؤال الأهم، لماذا هو الأذكي حتي ستة سنوات، الإجابة بالطبع لأنه بعد ذلك يدخل المدرسة ليبدأ منحني الذكاء في الهبوط تدريجيًا، حتي يصل إلي مستويات متفاوتة من الغباء، أو الإستغباء، فما يعايشه من مناهج وأساليب للتعليم، يتبعها في العادة مُعلمين غير مؤهلين تربويًا للتعامل معهم، فتكون النتيجة حالة من التسرب التعليمي الجماعي، أصابت أكثر من 21 مليون طفل مصري، وفقًا لأخر إحصاء لعام 2016، والذين قرروا بمحض إرادتهم الفرار من حجيم التعليم المصري، بينهم أكثر من مليون ونصف قرروا ترك فصول التعليم بعد أن دخلوها فعليًا.

من المُخطئ في ذلك؟، المدرس، المنهج، السياسة التعليمية برمتها، لماذا يكره الأطفال في مصر التعليم؟، هل العلوم التي يتلقاها الأطفال بتلك الصعوبة التي جعلتهم يتسربون من مدارسهم؟، تلك التساؤلات كان اللبنة الأولي التي ساهمت في بنائي للمؤسسة المصرية لتبسيط العلوم "إيجاز"، كمحاولة لإعادة هيكلة المفاهيم العلمية المتخصصة، ليس فقط للأطفال، أو للأجيال القادمة، ولكن أيضًا لعموم المصريين، لإيماننا بأن قضية تبسيط العلوم قضية جوهرية قائمة علي ما يسمي بفلسفة العلوم نفسها، خاصة وأننا نعيش عصر يحظى العلم فيه بمكانة عالية بين الجمهور، حتي وأن كان مجرد إلقاء أحد مصطلحاته في نقاش ما كفيل بتغيير الدفة، ويتوهم من يخوض فيه بأنه "عالم" كبير ببواطن الأمور.

علينا أن نعترف أولًا، أن تاريخ توصيل العلوم بشكل بسيط للعامة قديم للغاية، فمنذ أكثر من ثلاثة عقود مضت، وتحديدًا عام 1988، أصدر عالم الفيزياء البريطاني "ستيفن هوكينج" كتابة الأشهر "تاريخ موجز للزمان"، والذي حقق طفرة في عالم تبسيط العلوم، فقد تمت ترجمته لأكثر من 35 لغة مختلفة، كما أنه حقق مبيعات بلغت العشرة ملايين نسخة في أقل من 20 عام، ما جعله البداية الحقيقية لما يسمي بـ"شعبنة العلوم"، أي جعل تلك العلوم صالحة للفهم لكل المستويات والفئات التعليمية.

لكن أيضًا علينا أن نعترف، أن عملية تبسيط العلوم ليست بالمهمة السهلة، فكيف لمُبسط العلم أن يتعامل مع مصطلحات أكاديمية جافة، وتأويله بشكل شعبي يفهمه العامة من الناس، ودون الإخلال بالمعني الحقيقي له، ودون إفساد العملية التعليمية بتسطيحها، حتي ولو كان الهدف من التبسيط هو تحقيق المعرفة بالعلوم وبأهميتها وفلسفتها، فقد يُسمح بالقائم علي تبسيط العلوم باستخدام لغات أو مصطلحات شعبية ليس لها علاقة بالعلم نفسه، أي أن تلك المهمة ليست بالسهولة، ويجب أن تتم بالتعاون مع الباحث او المتخصص، ومحرري العلوم أنفسهم.

الحقيقة التي لا جدال فيها أن مُبسط العلم لا ينتج علمًا، ولكنه ينتج معرفة وثقافة علمية، فجل إهتمامه ينصب علي ما توصل إليه العلم، ثم يبدأ في شرحة بطريقة مُبسطة يسهل فهمها، رغم صعوبة التواصل مع المتلقي من العامة من خلال الوسائل المتاحة، من مقالات، أو كتب، أو وثائقيات تتحدث عن المنهج العلمي، كما أنه يجب الإنتباه إلي طريقة جذب العامة لتلك العلوم، خاصة وأن أغلب الدراسات أكدت أنهم يفضلون المصطلحات الملفتة للنظر والمثيرة للخيال، ما يحد من كم الأفكار العلمية الممكن تبسيطها، ويغلق الباب أمام عرض نظريات مهمة في مختلف العلوم، كنظرية الأعداد علي سبيل المثال، أحد النظريات الرياضية المهمة.

"وجع دماغ.. ولا فائدة مرجوة منه".. عبارة كثيرًا ما سمعتها من أغلب القائمين علي العملية التعليمية، والأخطر أني سمعتها من القائمين علي نشر الوعي بين جمهور الناس، ممن يطلقون علي أنفسهم إعلاميين ومثقفين، ما جعلني أتسائل فعليًا، هل نحن في حاجة إلي تبسيط العلوم؟، هل نحن في حاجة إلي نشر المعرفة العلمية؟، وتحقيق التواصل العلمي في هذه الفترة؟، والإجابة هي نعم، نحتاج لذلك، خاصة وأننا نعيش زمن الهرطقات والشعوذة العلمية، زمن أضحي كل ما يُقال يُصدق، دون التأني ولو لحظة للتفكير فيما قيل، وهل يمكن تصديقه علميًا أم لا.

كيف يمكن لمجتمع يريد أن ينهض، مجتمع يرغب في حل مشكلاته، أن يفتقر أبناء وطنة إلي التفكير العلمي الصائب، رغم أن هناك خطأ شائع بين البُسطاء لا أعلم من المسئول عنه، يقصر التفكير العلمي علي العلماء فقط، وكأنهم يريدون أن يقولوا للبُسطاء، لا تفكرون، لا تفهمون ما يكتبه المتخصصون، رغم أن فهمهم للمنهج العلمي الصحيح قد يساعد في حل الإشكالية التي يعانيها المجتمع، والأدهي إضطرار هروب الجميع من دراسة تلك العلوم، خوفًا من صعوبتها، ما يدفعنا للتساؤل، كيف سنتمكن من التقدم والإزدهار في ظل إفتقاد المجتمع لخلفية علمية ولو بسيطة.

كيف سيتم تبسيط العلوم؟، وما هي الآلية أو الطريقة التي يجب إتباعها ليفهم البسطاء تلك المصطلحات الصعبة؟، قديمًا سألوا عن تعريف محدد للعلوم، قالوا إن العلوم هى الأشياء التي سمعوا عنها في المدرسة، ولكنهم في نفس الوقت يؤكدون إنها علوم صعبة، لأنهم درسوها بشكل نظري أكاديمي، لذلك فالمنهج المتبع لتبسيط العلوم لن يرتبط بأي شيء نظري أو أكاديمي، وتقديمها بكل الوسائل التي يحبها المتلقي، سواء كانت كوميدية، أو قصصي، علي أن تكون مواكبة للعصر الذي نعيش فيه، وهي وسائل يتبعها أشهر علماء العالم، أمثال عالم الفيزياء الفلكية الأمريكي "كارل ساجان"، وعالم الفيزياء النووية الهولندي "والتر ليون"، والمهندس والممثل الكوميدي الأمريكي "بيل ناي"، وأستاذ العلوم الفلكية الأمريكي "نيل تايسون"، والفيزيائي الأمريكي "برايان جريين".

خلاصة القول،، بيننا عقول صغيرة وصفت يومًا بالأذكي، يومًا بعد يوم تختفي تلك العقول، دون أن ندرك ماذا حدث لها، تلك العقول افتقدت حُسن المُعاملة، افتقدت من يفهمها، لذلك قررت الإختفاء والإنعزال عن عالمنا القاسي، لنخسر نحن عقلًا كان يمكن أن يغير حياتنا كثيرًا، تخيلوا معي، في ظل مجتمع يعاني الأمية بنسبة تصل إلي 25%، أي حوالي 25 مليون مواطن لا يعرف القراءة والكتابة، وفي ظل أمية علمية قد تتخطي الـ90%، ماذا يمكن أن تحقق دولة تعاني مثل هذا؟، وماذا كان يمكن أن يتحقق إذا ما فهم هؤلاء أن العلوم ليست بالصعوبة التي يخيلوها، آلا يمكن أن ندرك أننا قتلنا دون قصد، أو جهل منا، عقول كان يمكن أن تصبح عباقرة أمثال ألبرت أينشتاين، ليوناردو دافنشي، توماس أديسون، بابلو بيكاسو، والت ديزني، آجاثا كريستي.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط