الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الإمام العظيم أحمد بن حنبل


أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ) رابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي. شيخ الاسلام وعالم العصر، زاهد الدهر، محدِّث الدنيا عَلَم السنة. اشتُهر بعلمه الغزير وحفظه القوي، وكان معروفًا بالأخلاق الحسنة كالصبر والتواضع والتسامح، ويُعدُّ كتابه "المسند" من أشهر كتب الحديث وأوسعها.

قصته ومحنته وفقهه شغلوا العالم الإسلامي كثيرا، بسبب قوة إيمانه ودفاعه المستميت عن الحق. واجتهاده وعلمه في سبيل إيضاح كلمة الحق وإبراز كلمة الدين.

جاء انجذابي لقصة الإمام العظيم أحمد بن حنبل، بعدما قرأت كثيرا عن محنته التي شغلت الافاق وتصديه للبطش من قبل الخلفية العباسي المأمون ومن جاؤوا بعده.وضد الفكر الذي انتشر في عهد الخليفة العباسي المأمون من قبل فرقة المعتزلة، والتي تعتبر أن (القرآن مخلوق وليس كلام الله المنزل) على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام.

واقتنع بهذا الرأي الخليفة المأمون وطالب بنشر هذا الفكر وعزل أي قاض لا يؤمن بهِ. وهو ما لقي معارضة واستهجان كثير من الأئمة مثل الإمام أحمد بن حنبل، والذي تحمل من أجل ذلك الكثير من التعذيب وتعتبر هذه المحنة ووقفة الإمام أحمد بن حنبل فيها من أروع الصفحات في التاريخ الاسلامي كله..

ويحسن بنا ان نتوقف أمام هذه المحنة في بداية الكتابة عن أحمد بن حنبل.

وكانت البداية كما تُروي في كافة كتب وعيون التاريخ الاسلامي، عندما لبس "الخليفة المأمون"، مسوح كرادلة الكنيسة الرومانية الذين أداروا محاكم التفتيش في القرون الوسطى وبعث إلى محافظ بغداد يأمره بأن يرسل اليه سبعة من وجوه العلماء( أي أبرزهم) ليتولى بنفسه إمتحانهم واستقصاء معتقداتهم في الفكرة الشيطانية التي تلبسته وهى فكرة" خلق القرآن".

ولم يكن الإمام أحمد بن حنبل بين العلماء السبعة المطلوبين الذين مثلوا أمام الخليفة فارتج عليهم. وضعفت صلابتهم فأجابوا المأمون بما كان يبتغيه منهم وأذعنوا جميعًا لأمره. فردهم إلى بغداد وطلب من عامله عليها( محافظ بغداد) إسحاق بن ابراهيم أن يشهر أمرهم وقولهم، وأن يجيبوا بما أجابوا به الخليفة في حضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث.

وكان من الطبيعي أن يترك هذا التراجع أثرا مؤلمًا في نفس الامام أحمد بن حنبل، الذي كان يتمنى أن يصمد العلماء وألا يهابوا المأمون وكان يرى أنهم لو ثبتوا لانقطع أمر المحنة وكان يقول " لو كان صبروا وقاموا لله لكان انقطع الأمر" لكن لما أجابوا الخليفة المأمون إلى بغيته ومزاعمه التي أدخلها عليه المعتزلة في موضوع "خلق القرأن" اجترأ على غيرهم.

وجرت المحنة على هذا الشكل ، وجاء إذعان العلماء السبعة وضعفهم وخورهم أمام الخليفة المأمون مشجعا له ليمضي في خطته الحثيثة لحمل الناس قسرا على القول بخلق القرآن.

وكان المأمون جبارًا في رؤيته في محنة "خلق القرآن" فبعث إلى عامله أن من لا يستجيب من العلماء ويقول قولا مباشرًا بما يريده فاضرب عنقه وابعث الى أمير المؤمنين برأسه"!.

وتهاوي كل العلماء أمام الخليفة المأمون. وقالوا بما يريده الا اثنين فقط هما "أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح"، عندئذ تلقى محافظ بغداد أمرًا من الخليفة المأمون أن يبعث اليه بالشيخين في طرطوس موثقين في الأغلال. فلما بلغ مدينة الانبارعبر أحد علمائها وهو أبو جعفر الانباري نهر الفرات، والتقى بالإمام أحمد بن حنبل وذكره بمسؤليته كعالم كبير ينظر اليه الناس جميعا كقدوة في الدين. فإن أجاب إجابة موافقة لرغبة المأمون فسيجيب الناس جميعًا إلى القول بهذه المقالة. ولكنه لو رفض التسليم بها فمعظم الناس إن لم يكون كلهم سيتوقفون عن الاجابة

فانهمرت دموع الإمام أحمد وأخذ يردد" ما شاء الله". لكن وهما في طريقهما إلى المأمون جاءت الأخبار بوفاته وبينما الشيخين في طريق العودة الى بغدد، فاضت روح الشيخ محمد بن نوح، إلى بارئها فصلى عليه الامام أحمد وهو لا يزال في قيوده ودفنه ثم عاد الى بغداد وقد ظن أن المحنة انتهت بوفاة الخليفة المأمون.

لكن شاء الله أن يخوض الإمام أحمد بن حنبل المحنة إلى نهايتها وان يكون صموده درسًا وقدوة لكل أصحاب العقائد في كل مكان وزمان – كما يقول الكاتب الراحل جمال بدوي في كتابه" من تراث الفكر السياسي في الإسلام".

وبموت المأمون لم تنته محنة خلق القرآن لأنه ترك وصية لأخيه المعتصم تتضمن أمرين خطيرين أولهما ان يواصل طريق سلفه في حمل الناس على إعتناق مقولة " خلق القرآن" وثانيهما أن يستمسك بأحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة صاحبًا ومستشارًا له وهو الرجل الذي يجمع المؤرخون على أنه المسؤول الأول عن إغراق الدولة في محنة "خلق القرآن" وأنه الكاتب الحقيقي لكل الرسائل التي كان يبعث بها المأمون من فراش مرضه على الحدود والتي كانت تتضمن كافة الأوامر بامتحان العلماء وضرب أعناقهم!!

ويواصل الكاتب الراحل جمال بدوي رواية المحنة وتفاصيلها في كتابه"من تراث الفكر السياسي في الاسلام" فبجلوس المعتصم على عرش الدولة العباسية دخلت محنة خلق القرآن ومعها محنة الإمام العظيم أحمد بن حنبل في منعطف خطير.

وبعد انقضاء ثلاثين شهرا في سجن المعتصم، عاد أحمد بن أبي دؤاد ليذكر الخليفة المعتصم بقضية أحمد بن حنبل ويطالبه بالبت فيها قبل أن يصبح أحمد بن حنبل بطلا شعبيًا تلتف الناس حوله.

وتعددت المناظرات بين قضاة المعتزلة والإمام أحمد في حضور الخليفة المعتصم. لكن الإمام أحمد لم يكن يزيد على قوله اعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به وظل على موقفه الثابت يرفض القول بمقولة" خلق القرآن" فهو كلام الله المنزل وليس بمخلوق. وكانت قد بدأت تتسرب إلى نفس الخلفة المعتصم بوادر الإعجاب بثبات الإمام أحمد بن حنبل وتمسكه الشديد بالكتاب والسنة حتى قال على مسمع من الحضور في مجلسه" والله لئن أجابني لأطلقن عنه يدي.. ولا أركبن إليه بجندي ولأطأن عتبته" لكن أبن ابي دؤاد كان حاضرًا في المشهد فحرض الخليفة المعتصم على الإمام أحمد وقال له " إن تركته قيل أنك تركت مذهب المأمون وأن أحمد بن حنبل غلب إمامين"..

فلما كان اليوم المشهود في العشر الأواخر من رمضان بلغ تأثير المعتزلة على المعتصم مداه، ووصل إلى نقطة اللاعودة عن تعذيب الإمام الذي يروي بنفسه وقائع الحادث البشع:

"فلما كان الغد وجه إلي فادخلت فإذا الدار غاصة فجعلت أدخل من موضع الى موضع وقوم معهم السيوف وقوم معهم السياط. وغير ذلك فلما انتهيت إلى الخليفة قال اقعد..ثم قال ناظروه وكلموه فجعلوا يناظرونني وجعل صوتي يعلو أصواتهم فلما طال الجدل نحاني ثم خلال بهم ..ثم نحاهم وردني إليه وقال ويحك يا احمد أجبني حتى أطلق عنك يدي فرددت عليه نحوا مما كنت أردد؟

فقال لي: عليك "وذكر اللعن"

فلما مثل الإمام أحمد تجاه العقابين"وهى الآلة التي يوقف فيها ليضرب التفت الى المعتصم" وقال له يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا اله إلا الله وأني رسول الله الا بإحدى ثلاث.. وأنت تستحل دمي وأنا لم آت شيئا من هذا".

يا أمير المؤمنين اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل كوقوفي بين يديك يا أمير المؤمنين راقب الله"..

فلم يأخذ الخليفة بهذا وأصدر الأوامر بالضرب وقال للجلادين: اسحبوه.. وجلس على كرسي ليقود المذبحة بنفسه. وجعل يستحث الجلادين ويقول لواحد منهم بعد الآخر وهم يجلدون الإمام العظيم أحمد بن حنبل: ادن..شد.. قطع الله يدك

ثم جعل يقول للجلاد شد..قطع الله يدك .فذهب عقلي وما عقلت الا وأنا في حجرة مطلق عن الأقياد..

ثم بعثوا إلى والرواية للإمام أحمد بن حنبل" برجل من السجن ممن يبصر الضرب والجراحات ويعالج منها فقال، أنا والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضربا أشد من هذا.

وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية" – كما يروي جمال بدوي في كتابه من تراث الفكر السياسي في الاسلام- رأيت رجلا ممن ضرب أحمد بن حنبل بين يدي المعتصم قال: دعينا في تلك الليلة ونحن مائة وخمسون جلادًا أن أمرنا بضربه كنا نعدو على ضربه ونمر ثم يجىء الآخر على أثره ثم يضرب.

وقال " المقريزي" في المقفى فلما ضرب أحمد سوطا قال بسم الله، فلما ضرب الثاني قال لا حول ولا قوة إلا بالله فلم ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق فلما ضرب الرابع قال: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

وبعد تسعة وعشرين سوطا كانت تكة سراويله قد انقطعت، فنزل السراويل إلى عانته فقلت: الساعة ينتهك فرمى أحمد بن حنبل طرفه نحو السماء وحرك شفتيه فما كان أسرع من أن بقى السراويل لم ينزل..فقال ميمون فدخلت إلى أبي عبد الله بعد سبعة ايام فقلت يا أبا عبد الله رأيتك يوم ضربوك فرفعت طرفك نحو السماء ورأيتك تحرك شفتيك. فأي شىء قلت؟

قال: قلت اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على صواب فلا تهتك لي سترًا وروي أنه قال: يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلا هو ..إن كنت على الحق فلا تبد عورتي.

فكان ابن اسحق بن إبراهيم يقول: أنا والله رأيت يوم ضرب أحمد وقد ارتفع السراويل من بعد انخفاضه وانعقد من بعد انحلاله. وما رأيت يوم أعظم على المعتصم من ذلك اليوم والله لو لم يرفع عنه الضرب لم يبرح من مكانه إلا ميتا!

كانت هذه هى محنة الإمام العظيم أحمد بن حنبل والذي ذكرت في كافة كتب التاريخ الثقات لتروي جانبًا من حياته وصموده.

ولما تولى الخليفة الواثق الحكم أعاد المحنة على أحمد بن حنبل، ولكنه لم يتناول السوط ويضربه كما فعل المعتصم، إذ رأى أن ذلك زاده منزلة عند الناس، وزاد فكرته ذيوعًا، ومنع دعوة الخليفة أن تَذيع وتفشو، فوق ما ترتب على ذلك من سخط العامة ونقمة مَن سماهم ابنُ أبي دؤاد "حشو الأمة"، ولذلك لم يُرِد أحمد بن أبي دؤاد والواثق من بعد المعتصم أن يعيد الأذى الجسمي، بل منعه فقط من الاجتماع بالناس، وقال الواثق له: "لا تجمعن إليك أحدًا ولا تساكني في بلد أنا فيه"، فأقام ابن حنبل مختفيًا لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق، وبذلك يكون أحمد بن حنبل قد انقطع عن الدراسة مدة تزيد عن خمس سنوات إلى سنة 232هـ، وبعدها عاد إلى الدرس والتحديث مكرمًا عزيزًا ترفعه عزة التقى وجلال السن والقناعة والزهادة وحسن البلاء.

ولد أحمد بن حنبل سنة 164هـ في بغداد ونشأ فيها يتيمًا.

وأخذ عن كثير من العلماء والمحدثين، وعندما بلغ أربعين عامًا في سنة 204هـ جلس للتحديث والإفتاء في بغداد، وكان الناس يجتمعون على درسه حتى يبلغ عددهم قرابة خمسة آلاف.

كان للإمام أحمد مجلسان للدرس والتحديث: أحدهما في منزله يُحدِّث فيه خاصةَ تلاميذه وأولاده، والثاني في المسجد يَحضر إليه العامة والتلاميذ، وقد كان وقت درسه في المسجد بعد العصر، أي قبل عتمة الليل وبعد وهج النهار، وقد كان يسود مجلسَه الوقارُ والسكينةُ مع تواضع واطمئنان نفسي، وكان في كل مجالسه لا يمزح ولا يلهو، وكان مخالطوه لا يمزحون في حضرته، بل إن شيوخه كانوا لا يمزحون في حضرته، فقد رُوي عن خلف بن سالم أنه قال: كنا في مجلس يزيد بن هارون، فمزح يزيد مع مستمعيه، فتنحنح أحمد بن حنبل، فضرب بيده على جبينه وقال: "ألا أعلمتموني أن أحمد هنا حتى لا أمزح؟"، وقد تجنب ابن حنبل المزاح لأنه كان يرى أن رواية السُّنة عبادة، ولا مزاح في وقت العبادة.

عاش الإمام أحمد بن حنبل فقيرًا مكدودًا محدودًا، ولم يعش مجدودًا ذا مال وفير، وكان يؤثر الخصاصة على أن يكون ذا مال لا يعرف أنه حلال خالص، أو يكون فيه منة العطاء، وكثيرًا ما كانت تضطره حاله أن يعمل بيديه ليكسب، أو أن يؤجر نفسه في عمل يعمله إذا انقطع به الطريق ولم يكن معه مال، وكان يؤثر ذلك على أن يقبل العطاء. وقد كان الإمام أحمد يعيش من غلة عقار قد تركه له أبوه، ويظهر أنه كانت له دكاكين يؤجرها، وإن كانت لا تجعله في بحبوحة من العيش فإنها تسد خلته وتدفع حاجته، والأخبار متضاربة على أنها لم تكن كبيرة بل كانت ضئيلة، وقد ذكر ابن كثير مقدارها فقال: «وكانت غلته من ملك له في كل شهر سبعة عشر درهمًا، ينفقها على عياله، ويتقنع بذلك رحمة الله صابرًا محتسبًا». ويُروى أن رجلًا سأل الإمام أحمد عن العقار الذي كان يستغله ويسكن دارًا منه كيف سبيله عنه، فقال له: «هذا شيء قد ورثته عن أبي، فإن جاءني رجل فصحح أنه له خرجت عنه ودفعته إليه!

وكان الإمام أحمد لا يرضى أن يأخذ من أحد عطاءً، ولا أن يقبل منه معونةً، ولقد كانت تشتد به الحال أحيانًا، إذ لا تكفي تلك الغلة لنفقات عياله، وتنزل به العسرة فكان يتحملها صابرًا، وكانت تلك العسرة تشتد وتعلو عن الاحتمال إذا كان في سفر وانقطع منه الزاد، فكان لا يهن ولا يضعف، ويتعب جسمه أيضًا في سبيل راحة نفسه. وقد كان ابن حنبل مع هذه القلة من المال من أسخى الناس بما في يده وما يستطيع، وكان حريصًا متشددًا في أن يكون ماله حلالًا طيبًا.

كان أحمد بن حنبل ورعًا زاهدًا، فقد كان كثير التعبد في محراب العلم ومحراب الصلاة، دائم الصوم حتى في أيام المحنة، إذ كان يُجلد بالسياط وهو صائم تطوعًا تبتلًا، وكانت صلاته في اليوم ثلاثمائة ركعة، فلما أوذي في المحنة ونزل به من الضرب والجلد ما نزل وبقيت آثار الجلد تؤلمه إلى أن مات، لم يستطع أن يحافظ على الركعات الثلاثمائة فأنزلها إلى مئة وخمسين ركعة في اليوم، وكانت له ختمة في كل سبع ليال. وكان ابن حنبل يتمثل الموت دائمًا، وكان إذا ذكر الموت خنقته العبرة، ويردف قائلًا: "الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب"، كما كان شديد التعلق برسول الإسلام محمد، ولم يكن هذا التعلق بالحب والاهتمام بالحديث النبوي والاحتفال بالسنة النبوية وحسب، وإنما بما يقع تحت يده من آثار النبي محمد.

ذاع علم أحمد بن حنبل واشتهر وهو حي يرزق، بل إن علمه بالحديث والأثر ذاع وهو لا يزال شابًا يتلقى العلم. أكثر العلماء من الثناء على أحمد بن حنبل قديمًا وحديثًا، ومن ذلك قول الإمام الشافعي: "ثلاثة من عجائب الزمان، عربي لا يُعرب كلمة، وهو أبو ثور، وأعجمي لا يخطئ في كلمة، وهو الحسن الزعفراني، وصغير كلما قال شيئًا صدقه الكبار، وهو أحمد بن حنبل"، وقال أيضًا: «خرجت من بغداد وما خلفت بها أحدًا أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل".

وقال الربيع بن سليمان: قال لنا الشافعي: "أحمد إمام في ثمان خصال: إمام في الحديث، إمام في الفقه، إمام في اللغة، إمام في القرآن، إمام في الفقر، إمام في الزهد، إمام في الورع، إمام في السنة".

وقال قرينه ومعاصره القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر بن شيبة، وأحمد أفقههم فيه"، وقال أيضًا: "ما رأيت رجلًا أعلم بالسنة منه".

وقال يحيى بن معين: «والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد". وقال أيضًا: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبته خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء مما كان فيه من الصلاح والخير".

أما مرضه ووفاته رحمه الله..

قال صالح بن أحمد بن حنبل واصفًا مرضَ أبيه قُبيل وفاته:



"لما كان في أول يوم من شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومئتين حُمَّ أبي ليلة الأربعاء، فدخلتُ عليه يوم الأربعاء وهو محموم يتنفس تنفسًا شديدًا، وكنت قد عرفت علته، وكنت أمرِّضُه إذا اعتل، فقلت له: «يا أبة، علام أفطرت البارحة؟»، قال: «على ماء باقلَّاء»، ثم أراد القيام فقال: «خذ بيدي»، فأخذت بيده، فلما صار إلى الخلاء ضعفت رجلاه حتى توكأ علي، وكان يختلف إليه غيرُ متطبب كلهم مسلمون، فوصف له متطبب يُقال له عبد الرحمن قَرعةً تُشوى ويُسقى ماءها، وهذا يوم الثلاثاء، وتوفي يوم الجمعة، فقال: «يا صالح»، قلت: «لبيك»، قال: «لا تُشوى في منزلك ولا منزل عبد الله أخيك». وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته، وأتى ابن علي بن الجعد فحجبته، وكثُر الناس، فقلت: «يا أبةِ قد كثر الناس»، قال: «فأي شيء ترى؟»، قلت: "تأذن لهم فيدعون لك"، قال: «أستخير الله»، فجعلوا يدخلون عليه أفواجًا حتى تمتلئ الدار، فيسألونه ويدعون له ثم يخرجون ويدخل فوج آخر، وكثر الناس وامتلأ الشارع وأغلقنا باب الزقاق، وجاء رجل من جيراننا قد خضب فدخل عليه فقال: "إني لأرى الرجلَ يُحيي شيئًا من السنة فأفرح به"، فدخل فجعل يدعو له، فجعل يقول: «له ولجميع المسلمين»، وجاء رجل فقال: «تلطَّفْ لي بالإذن عليه، فإني قد حضرت ضربه يوم الدار وأريد أن أستحله"، فقلت له: "فأمسك"، فلم أزل به حتى قال: «أدخله»، فأدخلته، فقام بين يديه وجعل يبكي وقال: «يا أبا عبد الله، أنا كنت ممن حضر ضربك يوم الدار، وقد أتيتك، فإن أحببتَ القِصاص فأنا بين يديك، وإن رأيتَ أن تُحلَّني فعلت»، فقال: "على أن لا تعود لمثل ذلك"، قال: «نعم»، قال: «قد جعلتك في حل»، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس..

ومات أحمد بن حنبل في وقت الضحى من يوم الجمعة في الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وهو ابن سبع وسبعين سنة..

رحم الله أحمد بن حنبل وأسكنه فسيح جناته جراء دفاعه المستميت عن الإسلام ووقفته لله ونصرة قرآنه العظيم.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط