الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

نرجوكم ارفعوا كل الدعم!


هو حديث جديد قديم، الدعم لا يصل إلى مستحقيه، وعملية الدعم تعتبر أكبر عمليات الفساد، وأقساها وأقصاها، وإثبات ذلك لا يحتاج براهين فهي واضحة كل الوضوح، ولنضرب مثلا بسيطا: السعر العالمي للتر الديزل - وهو المعمول به في أوروبا حوالي 25 جنيها، الدولة - أعني مصر - تدعمه وتعرضه منقوصا عن ذلك السعر العالمي في حدود عشرين جنيها، فلنفترض أن هناك من الأغنياء أسرة مكونة من أب وأم وابنين، لديهم أربع سيارات - وهذا أمر طبيعي - هذه السيارات تستهلك في اليوم متوسط مائتي لتر، كل لتر به دعم عشرون جنيها أي أن هذه الأسرة الغنية تستفيد من الدعم الذي هو مخصص للفقراء من المواد البترولية فقط أربعة جنيهات في اليوم الواحد، أي أن هذه الأسرة الثرية تحصل على هذا المبلغ يوميا فقط من دعم المواد البترولية لسياراتها ذات الاستخدام الشخصي أربعة آلاف جنيه، وقس على ذلك في كافة المواد المدعمة.
 
إن رفع الدعم كله - لأنه منظومة فساد كاملة - في صالح الفقراء، على أن يتم توزيع دعم مادي بالتساوي لكل فرد من الشعب، حتى الأغنياء لأنهم من هذا الشعب، ثم تتم زيادة للفقراء الذين لا يصل دخلهم الشهري إلى حد المعيشة الكريمة، وفي ذلك فائدة للدولة وفائدة للشعب، وأخرى مضافة للفقراء، وهذا هو المعمول به في الدول التي نقول لديها توزيع عادل لثرواتها.

إن التجارب الإنسانية - الناجحة منها والفاشلة - رصيد للبشرية جميعها، وليس على المرء خوض جميع التجارب للوصول لنتائج تم تحقيقها، وأُثْبِتَ نجاحها من فشلها، والخبرات البشرية تراكمية، يستفيد بعضها من بعض، ويتمم بعضها بعضا، ويكمل منها الأخرى.

ولقد مرت المجتمعات بتجارب متشابهة في أحايين كثيرة، يمكن البناء عليها، كما يمكن الاستفادة منها، فالشعوب المختلفة تسعى جميعها لأفضل أسلوب للحياة، معتمدة كل جماعة بشرية في ذلك على رصيدها من الخبرات، مُسْتَقْدِمَة ومستدعية خبرات نظيراتها من الأمم والشعوب الأخرى. 

ومصر ليست بِدْعًا في ذلك، وليس عليها إلا أن تنظر في رصيدها الطويل وتجاربها المتعددة، وتدرس ما خاضته غيرها من أممٍ استطاعت أن تُحْيِي أبناءها - دون ثروات هبطت عليها من السماء أو تفجرت بها عيون الأرض - حياة رغدة سعيدة، وضَمِنَتْ لمن عاش على أرضها أو استظل بسمائها مستوى معيشيًا يتناسب والمقاييس الإنسانية.
 
إن النمسا إحدى تلك الدول التي استطاعت أن تضع كل من يعيش بها في مستوى معيشة راقٍ للغاية، ولم يكن ذلك محض الصدفة، ولكنه كان نتيجة لدراسات وأبحاث وتجارب محلية مرة ومستوردة - دون استنكاف أو تعالٍ - مرة أخرى، فبحثت عن نظام اقتصادي، يضمن حرية السوق من ناحية، ويحمي المواطن من ناحية أخرى، فكان اقتصاد السوق الاجتماعي (بالألمانية Soziale Marktwirtschaft) هو نظام اقتصادي رأسمالي يتبنى اقتصاد السوق، لكنه يرفض الشكل الرأسمالي المطلق، كما يرفض أيضا الاشتراكية الثورية، فهو يجمع القبول بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والشركات الخاصة مع ضوابط حكومية تحاول تحقيق منافسة عادلة، وتقليل التضخم، وخفض معدلات البطالة، ووضع معايير لظروف العمل، وتوفير الخدمات الاجتماعية.

إذًا أخذت الدولة أمرين هامين بهذا النظام: الأول: الحرية الملكية وخلق روح المنافسة في سوق حر، والثاني: ضوابط حكومية تعود بمنافسة عادلة تمنع الاحتكار من ناحية، وتعود بفائدة على المستهلك " المواطن" من ناحية أخرى. 

هذا المستهلك الذي فيه نسبة كبيرة بل الأغلبية العظمى منه ليست ثرية على الإطلاق، تعتمد اعتمادا كبيرا على دخلها الشهري الذي تحصل عليه من عملها، وفي أحيانٍ لا يكفي هذا الدخل لكي يحيى به المواطن أو المقيم حياة كريمة نتيجة لغلاء أسعار السلع والخدمات في بلد تخضع فيه كل السلع وجميع الخدمات لسعر السوق وتٌعْرَض بسعرها العالمي الحقيقي، ولا تقوم فيه الدولة بدعم أيٍّ من السلع ولا الخدمات: فلا مواد بترولية مُدَعَمَة ولا أيٍّ من أنواع الطاقة: الكهرباء والغاز يُقَدَّم لها أيٍّ نوع من الدعم، فكل من يعيش على أرض النمسا يشتري ويحصل على كل السلع والخدمات بسعرها الحقيقي "سعر السوق"، يستوي في ذلك المليونيرات وهؤلاء الذين لا يكفي دخلهم لحاجياتهم الأساسية، وهنا يظهر دعم الدولة لهذا المواطن الذي يحتاج فقط لكي تضمن له الدولة تلك الحياة، التي أثبتناها سابقا وقلنا إن كل من يعيش فيها يحيى حياة كريمة، تصل لدرجة الرغد والترفيه، وذلك ناتج عن أن الدعم يصل فعلا لمستحقيه، فلا تدعم الدولة السلع ليحصل عليها الأغنياء مدعومة وهؤلاء الأثرياء يستهلكون أضعاف أضعاف الفقراء، فيستحوذون على القدر الأعظم - ولا أقول الأكبر - من الدعم الذي تقدمه الدولة، ويحرمون منه الأَوْلى به والذي وُجِدَ في الحقيقة من أجلهم وهم الفقراء. 

تلك الصورة التي نجحت النمسا فيها نجاحا باهرا حينما رفعت الدعم عن السلع، ومنحته لمستحقيه - ومستحقيه فقط - نقودا عينية، يكون لهم في التصرف بها كل الحرية، وعليهم -أي الفقراء - أن يحددوا بالتالي أَوْلَوياتهم، هذه الأولويات التي ستجعل هذا الفقير يقتصد اقتصادا كبيرا في استهلاك بعض السلع - الكهرباء مثالا، التي يذهب عديد العديد من الكيلوواط منها هباء منثورا - نتيجة لسوء الاستخدام - فسيحرص الحرص كله - بعد أن يحصل عليها غير مدعومة - على توفيرها حيث إنه في حاجة إلى مال الدعم الذي يحصل عليه لأشياء أكثر أهمية في حياته. 

وقس على ذلك كل السلع التي تقوم الدولة بدعمها، ويذهب الجزء الأعظم منها ليصب في صالح الأغنياء، فليس من الطبيعي - أن يأخذ أصحاب المصانع والشركات الكبرى المواد البترولية مدعومة بأقل من سعرها الحقيقي "سعر السوق " بأربع أو خمس مرات، ثم يبيعون للمستهلك " المواطن " منتج تلك المصانع وهذه الشركات بالسعر العالمي " سعر السوق " وربما تهربوا - جميعا أو بعضهم - من دفع الضرائب تلك التي تقوم الدولة ببعض عائدها بدعم السلع التي يحصل عليها مرة أخرى الأغنياء.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط