الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دكتور محمود داود يكتب: د. جعفر عبد السلام.. من قمة الحياة إلى قمة الممات

صدى البلد

عاش مرفوع الهامة، عالي النفس، عظيم الروح، قوي الحجة، دقيق النظر، واسع العلم، غزير الحلم، يتنقل من قمة إلى قمة، ومن ميدان عمل إلى آخر، ومن كتاب إلى كتاب، ومن مؤتمر إلى آخر، ومن بلد إلى أخرى، ومن منبر إلى منبر، وهو راسخ القدم، سيال القلم، عظيم الأثر، قوي البصر، كأنه كان يخاطب نفسه دائما بقول القائل:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
أو كأنه كان يتمثل قول الآخر، وهو يتطلع إلى قمة العلم، وقمة المجد، وقمة الإدارة، وقمة الحكمة:
إذا ما رمت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم
أو كأنه لما سمت همته، وتوسع فكره ، وتطاول أمله، قام يوزع نفسه على هموم أمته الكثيرة، التي فرضها عليه تخصصه في قانون العلاقات الدولية، مثل همّ القضية الفلسطينية، وهمّ اللاجئين وضحايا الحروب والنزاعات، وهمّ مياه نهر النيل في مصر، وهمّ العدوان على بعض البلاد العربية مثل العراق ولبنان، وهمّ الجامعات الإسلامية، وهمّ الجودة والتعليم بها، بل وفرضت عليه عقيدته وتوجهه الإسلامي الأصيل هموما أخرى، مثل همّ تجديد الخطاب الديني، وهمّ الوحدة بين الدول العربية والإسلامية، وهمّ إصلاح المنظمات الإسلامية، وهمّ ردود الشبهات ومواجهة الافتراءات التي وجهت إلى الإسلام والعقيدة الإسلامية،... وغير ذلك من هموم أمتنا الثقيلة، فراح يكتب ويؤلف، ويعقد المؤتمرات والندوات في داخل مصر وخارجها لمعالجة كل هذه الهموم، ولأنه يدرك أن العمر لا يسعف الإنسان في تحقيق كل آماله، كان لسان حاله يقول:
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها فالنفس واحدة والهمّ منتشر
والمرء ما عاش مَمْدود له أمَـل لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
إنه أستاذنا العالم الجليل المرحوم أ. د. جعفر عبد السلام، والذي فقدت به الأمة الإسلامية والعربية، عالما لا يشق له غبار، وقد أحدث فقده ثلمة كبيرة في صرح فقه العلاقات الدولية، لا يسدها غيره، وأوجد نقصا لا يكتمل بسواه، وهو النقص الذي يحدث بموت العلماء، والذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا " [الرعد: 41]، حيث يروى عن ابن عباس في المستدرك على الصحيحين في تفسير قوله " نَنْقُصُهَا " قال: بمَوْت عُلَمَائِهَا وَفُقَهَائِهَا . وهي الثلمة أو النقص الذي أشار إليه عبد الله بن مسعود أيضا عندما قُتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد روى الحاكم في مستدركه أيضا ــ باب مقتل عمر رضى الله عنه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنْ كَانَ عُمَرُ حِصْنًا حَصِينًا يَدْخُلُ الْإِسْلَامُ فِيهِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ، فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ انْثَلمَ الْحِصْنُ فَالْإِسْلَامُ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ، إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّهَلَا بِعُمَرَ»
والعجيب في أمر أستاذنا المرحوم د. جعفر عبد السلام، أنه ظل ينتقل في حياته من قمة إلى أخرى، ومن رتبة إلى أخرى، حتى هيأ الله له يوم موته قمة القمم ورتبة الرتب، أما في حياته فقد تربع على قسم القانون العام بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة أكثر من عشر سنوات، ثم هيأ الله له قمة أخرى، حيث تولى منصب نائب رئيس جامعة الأزهر عدة سنوات، ثم ارتقى إلى قمة أخرى بعد ذلك، حيث تولى منصب الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية، والتي تضم في عضويتها أكثر من مائتي جامعة على مستوى دول العالم، وظل يعاد انتخابه لهذا المنصب فترة بعد أخرى، وكان آخر مرة أعيد فيها انتخابه، هو ما حدث في اجتماع المجلس التنفيذي والمؤتمر العام الأخير الذي عقد بالأسكندرية في ٢٦ أبريل ٢٠١٨م وتم انتخابه لمدة أربعة سنوات، ولم يمهله الموت إلا شهرا ونصف من هذه المدة الجديدة، فعاجله في الحادي عشر من يونيو 2018 الموافق السادس والعشرين من رمضان 1439، وهذه قمة القمم، حيث ادخر له القدر أن يرقى إلى الله في أعظم الشهور وهو شهر رمضان المبارك، الذي أنزل فيه القرآن، وقال فيه:" شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ "، كما ادخر له ليلة وِتْرية من أعظم ليالي الشهر، وهي أرجى ليلة في الغفران والرحمة، وفي أن تكون ليلة القدر، لتكون هي أول ليلة يبيتها في قبره، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان. صحيح أن الراجح لدى جمهور العلماء أن ليلة القدر في الليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان ، لكن أرجى ليلة هي ليلة السابع والعشرين، لما رواه الإمام أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله : "من كان متحريها فليتحرها ليلة السابع والعشرين". وروي مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه، عن أبيِّ بن كعب أنه قال: "والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها ".
ويكفي في تكريم أستاذنا يوم موته أنه مات على الأقل في ليلة وِتْرية، قابلة على أقل تقدير، لأن تكون هي ليلة القدر، وهي ليلة لقائه بربه الكريم، وتلك قمة القمم التي ارتقى إليها يوم موته. ولا أظن أن أستاذنا د. جعفر قد ارتقى إلى ذلك إلا بما بينه وبين ربه من أسرار، ربما قد غاب عنا أكثرها، لكن في النهاية لم تغب عنا مكانته في حياته ويوم مماته، لقد أدركنا مكانته في حياته، وأدركنا خسارة أمته برحيله، ويلخص ذلك المتنبي بقوله:
وأفجع من فقدنا من وجدنا قبيل الفقد مفقود المثال
رحم الله أستاذنا الكريم وتغمده في الصالحين وأكرم نزله ووسع مدخله وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وفي الختام أعزي نفسي كما أعزى أبناءه وذويه ومحبيه، وأعزي أساتذة القانون الدولي جميعا، وأعزي جامعته، بل وأعزي أمته.