الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مركب بلا صياد .. ولا حياة بلا مسرح


لا يمكن أن يحيا الإنسان بلا مشاعر .. ولا تستقيم الحياة بلا بشر .. ولا يعرف المرء معنى السعادة وراحة البال بلا قلب يدق بالحب ودفء المودة .. ولايوجد سمك يعيش بلا ماء، وأيضا لا تسير المركب وسط الأمواج وتبحث عن رزقها وخير بحرها .. بلا صياد.

معان متداخلة فيما بينها نسج خيوطها بقلمه الرقيق الكاتب الإسبانى أليخاندرو كاسونا ليصنع نصا بديعا بعنوان "مركب بلا صياد"، والتقطه المخرج الواعى عمرو قابيل ليرسم به تابلوها جديدا من تابلوهات مركز الهناجر للفنون الذي يتبني التجارب المسرحية الجادة القائمة على مخاطبة العين والوجدان وتحريك رياح العقل والتفكير فى الحياة لنغير من واقعنا إلي الأفضل ونرتقى بحواسنا المادية والإنسانية فى التلقى وتفسير مثل هذه النوعية من التركيبة الفنية الراقية .. 

وفى تجربته الأخيرة وضع "قابيل" يده على موطن الداء لأكبر أزمة يعيشها الإنسان بغض النظر عن الزمان والمكان .. ذاته وكيف يتوافق معها ويتغلب على نقاط ضعفها أمام ألاعيب وحيل الشيطان الماكرة .. وفى صراع درامى وفلسفى يصل بين نص الإسبانى كاسونا، ورائعة الألمانى جوته "فاوست"، يُبحر فريق العمل المسرحى فى أعماق شخصيات القصة لاستخراج ما بداخلهم من متناقضات وصولا إلى نهاية الطريق بالإجابة عن السؤال الأهم فى هذا الصراع : هل يستطيع الإنسان أن يتخلى عن غرائزه وشهواته مقابل لحظة رومانسية واحدة صادقة مع الآخرين؟! .. أعتقد أنها لحظة مفقودة في حياتنا القاسية وتساوى الكثير.

واعتمد العرض فى تفاصيله التشكيلية علي إبراز الفارق بين حياة الأكواخ البسيطة ذات الأثاث الفقير ولكنها مليئة بالوفاء ونبل المشاعر والرغبة العارمة فى "لمة الأسرة"، وبين عالم القصور المصنوعة من أموال التجارة المحرمة والمضاربة فى البورصات لتبدو خاوية من قيم الشرف والأمانة ويحكمها منطق الطمع والشراهة وهو ما تجسده بارات الخمور وكئوس الأثرياء .. وبين هذين العالمين تنطلق الأحداث ويبدأ الصراع ومعه رحلة الإجابة عن السؤال الكبير، ومن سينجح فى قيادة "دفة" المركب إلي بر الأمان .. صياد الحب أم رياح المادة الغادرة؟!

وتناغمت سينوغرافيا العمل ما بين إضاءة مشوشة علي الوجه فى لحظات الضعف والخضوع لبراثن الشيطان، وأخرى ناعمة فى مشاهد الكوخ حيث المصارحة مع النفس واللقاء الرومانسى المفقود، مما انعكس على اللوحة البصرية بشكل إيجابى وأضفي عليها تدفقا فى الحالة الشعورية .. وتفاعلت المشاهد مع اختيارات الموسيقي المواكبة للمواقف الدرامية غير أن بداية العرض شابها بعض التطويل والرتابة واقتضت مزيدا من التكثيف فى الرؤية الإخراجية للنص، حتى يتسم الإيقاع العام للمشاهد بالسرعة والحيوية المطلوبة .. لاسيما وأن طبيعة النص الأصلى تُفسح المجال والخيال أيضا أمام مبدع كعمرو قابيل لاختزال كل التفاصيل والشخصيات الفرعية والتركيز بشدة وعمق على لُب القضية الإنسانية، إذ كان الأفضل فى رأيى تسليط الضوء علي المناطق الساخنة والإفلات من استعراض شخصيات وأحداث ليست مؤثرة فى الحدث الرئيسى لكى يكتسب التابلوه قوة ونضجا فنيا أكبر .

والتعامل مع هذه النصوص الشاعرية ذات الصبغة الفلسفية يحتاج إلي ممثلين يمتازون بالشفافية فى الأداء والفهم الدقيق لمتطلبات الحالة المسرحية، فنجد "راندة" بوجهها الراقى مريحة للعين وتثير إعجاب المشاهد لرقة حركاتها وانفعالاتها، ولكنها تظل بعيدة عن روح الشخصية وآلامها الداخلية، وهي مفردات تتطلب تعبيرات أكثر صدقا وصوتا حساسا بغلف المشاعر المحبوسة تحت الجلد .. 

واتسم أداء مى رضا بالبساطة المُقنعة والتكنيك السهل الممتنع فى تجسيد الدور وفقا لما هو مرسوم .. وحاول هاني عبد الناصر في لعبة الشيطان والإنسان رسم البسمة علي الشفاه بلمحات كوميدية لطيفة وبالرغم من نجاح طاقته المتوهجة في التخفيف من مأساة الفكرة، لكنه خفّف أيضا من دسامة وثقل ووزن هذا الشيطان في الأحداث، مما أضعف من تأثيره دراميا .. أما منحة زيتون بخبرتها واحترافها، وإبراهيم فرح بخفة ظله وجمال الأسمر، ومحمد فتحى بحضوره المسرحى فكانوا كالعازفين البارعين بلا آلات موسيقية فى ظل المساحات الصغيرة وأدوارهم الهامشية، ويبدو أننا علي موعد معهم فى تجربة أخرى للاستمتاع بمواهبهم وإمكانياتهم

أما عمرو قابيل "الممثل"، فلم يلمع مثلما شهدناه علي كرسى "المخرج" .. وفي الوقت الذى يمتلك فيه أدوات جسدية وتعبيرية وحسا كوميديا خاصا، غير أن هذه الأدوات تحتاج إلي عين أخرى خارجية تراقبها وتستفزها وتوظف اتجاهاتها مسرحيا، خصوصا إذا كان ذهن "المخرج" مشغولا ببناء العمل والحفاظ علي تماسكه وحمايته من السقوط، ومن ثم يتعرض "الممثل" للظلم وينطفئ بريقه، وهو بطل العرض ومالك إجابة السؤال

إن تجربة "مركب بلا صياد" جددت الأمل فى قراءة نصوص مسرحية محترمة لإثراء الوعي الثقافى، ومشاهدة نماذج فنية تنطق بالذوق الرفيع ورقى الرسالة رغم ثغرات المعالجة التى لايخلو منها أى عمل مسرحى مهما بلغت براعة صُناعه .. ودائما وأبدا لا حياة بلا فن أو مسرح.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط