الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: أبو القاسم شاعر الخضراء والحياة

صدى البلد

من تونس الخضراء، نتحدث عن شاعر الثورة والوجدان والحياة، الرجل الذي غنى للحياة والموت والألم المندثر، الشاعر أبو القاسم الشابي.

هو أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي، مواليد عام 1909 في منطقة الجريد على مقربة من بلدة توزر التونسية، تلقى علومه الأولى على يد والده الذي كان يشتغل بدار القضاء، كان شغوفا بالمطالعة والغوص في أعماق الكتب.

 وعلى غرار شاعر المهجر الكبير جبران خليل جبران، تأثر بأدب الرومنطيقية الفرنسية، وحب الكتب الغرب الأدبية، بدأ أبو القاسم تعليمه وهو في الخامسة من عمره عندما ذهب إلى "الكتّاب" وقبل إتمامه عمر الثامنة عشرة إلتحق بجامعة الزيتونة، كوّن ثقافة جمعت بين قديم التراث العربي والأدب الحديث في العراق، ومصر، وسوريا، والمهجر، ورغم أنه لم يكن على علم بلغة أجنبية ولكن بما أنه كان واسع المطالعة فقد استطاع استيعاب ما تم نشره في المطابع العربية فيما يخص آداب الغرب.

"يا موت قد مزقت صدري..وقصمت بالأرزاء ظهري، وفجعتني فيمن أحب..ومن إليه أبث سري، وأعدّه غابي ومحرابي ..وأغنيتي وفجري، ورزأتني في عمدتي.. ومشورتي في كل أمري".

قالها أبو القاسم رثاء علي وفاة والده، الحدث الذي غير حياته، تلك الصدمة التي تركت له ألما عميقا في نفس الشاعر وبدء التشاؤم واليأس يخيم علي حياته، ومن ثم تولي رعاية اخواته كونه الأكبر بينهم، وفي نفس العام أصيب بتضخم في القلب، ولم يكن تجاوز الثانية والعشرين من عمره، ذلك المرض الذي لم يؤثر عليه إذا كان مواصلا لعمله وفي نفسه ثورة على الحياة، غير انه قد أنهى دراسته وأخذ إجازة الحقوق عام 1930 .

"إذا الشّعْبُ يَوْمًَا أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر" من قصيدة "إرادة الحياة".
خلف عددا كبيرا من الآثار الأدبية، رغم أنه توفي في عمر الأربعينات والتي تعبر عن تميزه كشاعر وصل الي قلوب الناس وتفوق عن أقرانه من الشعراء والأدباء، تعد قصيدة "إرادة الحياة" القصيدة الخالدة لأبو القاسم الشابي، حتي الآن، مما جعل البعض يطلق عليه "شاعر الحياة المحارب"، وهي تلك القصيدة التي حدثت تغيير عظيم، فكان التونسيون سعداء وهم يرون نبوءة شاعرهم تتحقق بعد سنوات عديدة من وفاته من وفاته وتأكدوا من أنهم الشعب المقصود بتلك النبوءة، ونظرته الثورية التشاؤمية النابعة من رحم المعاناة، ما هي إلا تشبت وتمسك بالحياة، وما ديوانه الخالد " أغاني الحياة " إلا دليلا على تعلقه بالأمل والحياة.

تجلت المعاني الوطنية في شعر أبو القاسم الشابي كثيرا، فقد حمل في قلبه حب الوطن ومحاربة التخلف والجهل، وقد كان يحلم بعالم يسوده السلام، ولا يعيش فيه الإنسان شقاء وحروبا غير أنه أدرك مدى خطورة الأفكار والسيطرة الاستعمارية على العقول وحشوها، وعمل علي زرع الحماس في قلوب المواطنين وإيقاظ الضمائر، فدعي بنهضة وثورة على الجهل والذل والظلم، فيقول الشابي :
أيها الشعب، ليتني كنت حطابا.. فأهوي على الجذوع بفأسي، ليتني كنت كالسيول إذا سالت..تهدّ القبور رمسا برمس، ليت لي قوة العواصف يا شعبي.. فألقي إليك ثورة نفسي، ليت لي قوة الأعاصير لكن .. أنت حي يقضي الحياة برمس !

وفي قصيدة " تونس الجميلة " تكلم عن صور التعسف والاضطهاد الذي يعاني منه مجتمعه، فقال : "لَسْتُ أبْكي لِعَسْفِ لَيْلٍ طَويلٍ .. أَوْ لِربعٍ غَدَا العَفَاءُ مَرَاحهْ، إنَّما عَبْرَتِي لِخَطْبٍ ثَقِيلٍ ..قد عَرانا، ولم نجد من أزاحهُ، كلّما قامَ في البلادِ خطيب ..مُوقِظٌ شَعْبَهُ يُرِيدُ صَلاَحَهْ"، هذا إضافة إلى مذكراته التي صدرت في كتيب بعنوان "مذكرات الشابي" وقدمت جانبا قصيرا من حياته الشخصية، وهبه الشعر ما لم يعثر عليه في الواقع اذا اهداه حياة لم يعشها.

ما تعرض له من حياة يملؤها ألم ويائس، عاش الشابي حياة غلب عليها طابع السخط والتشاؤم، فمن فقدان الوالد إلى هموم الوطن انتهاءا بمرضه العضال والذي جعله ينشد الموت في كل لحظة وحين في قصائده، فهو إن كان يتفق مع شاعر التفاؤل "إيليا أبو ماضي" في نظرته إلى الحياة أنها زائلة وفانية، إلا أنه يقف في مواجهة حقيقة الموت الحتمية بصمود وشجاعة، فصارعت في نفسه نظريتان، نظرية الإيمان، ونظرية الشك.

وأخيرا ... عانى الشابي كثيرا ونفسيًا قبل أن يكون جسديًا، لتكون وفاته نتيجة مرضه في القلب عام 1934م، ولكن الشهرة التي اكتسبها أبو القاسم لم ينفرد بها كثيرا من غيره، فلم يخل كتاب مدرسي تونسي من قصيد أو بيت للشابي، "شاعر الخضراء" كما سمي رغم ذلك لم يتح له أن يكتب ديوانا آخر غير أغاني الحياة الذي فتح له بعد وفاته أبواب الشهرة، فقد تحول بعد وفاته إلى رمز لكل تلك المضامين، حتي الخيال الشعري عند العرب والركود السياسي والفكري أشار إليه في قصائده، ومجموعة الأقدار التي تألفت منها حياته صنعت منه نموذجا للشخصية الرومانسية، فقد عاش في مواجهة صعبة بين دفاعه عن قيم شعرية حديثة في مواجهة مؤسسة أدبية متماسكة في قوة تأثيرها تعيش وتعيش طويلا.