الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الحقيقة وثقافة القطيع. تركيا انموذجًا


التطور التكنولوجي والمعلوماتية أظهرت معها ثقافة جديدة ومجتمع جديد يختلف نوعًا ما عما تمت معايشته قبيل هذه الثورة التي غيرت الكثير من المفاهيم التي كنا نعتقد بها على أنها الحقيقة المطلقة. منذ الثورة العلمية والفلسفية التي قام بها انيشتاين والتي دحض بها نظرية نيوتن في الحقيقة المطلقة، تغيرت معظم الحقائق العلمية والمعرفية. انيشتاين الذي يرجع له الفضل في التوصل للنظرية النسبية وأنه لا شيء مطلق أبدًا، اعتمد على نباهته الفكرية ووعيه المرتبط بالطبيعة للتوصل إلى الحقيقة العلمية في النسبية.

تختلف العلوم وكذلك السياسات والفلسفات والحقائق وحتى الأخلاق من مجتمع لآخر وذلك وفق الجغرافيا والتوقيت والتي وسمها العلماء بمصطلح جديد ألا وهو "الزمكان". أي أن كل شيء يختلف باختلاف الزمان والمكان وهذا الذي اعتمد عليه العلماء لإثبات أن الحقيقة المطلقة غير موجودة سوى في الكون المطلق. وبما أن الانسان لم يصل بعد إلى معرفة الكون المطلق، فهذا يعني أننا ما زلنا في مسيرتنا النسبية والبعيدة عن المفاهيم والآراء الجاهزة والمسبقة التي نعرفها أو التي تم تلقينها لنا، لأنها ربما تختلف في المستقبل وهي ليست بالمطلق.

الحقيقة مرتبطة بشكل وثيق بالوعي والحرية بشكل مضطرد، ولا يمكن إثبات الحقيقة بعيدًا عن الوعي والحرية. فكلما زاد مستوى الحرية عند الإنسان والمجتمع، اقترب أكثر من الحقيقة المجتمعية والعكس صحيح في نفس الوقت.

اليوم ونحن نعيش الثورة التكنولوجية والمعلوماتية بكل ما تحمله لنا من معرفة وإدراك وعلوم تؤثر بشكل أو بآخر على فكرنا وشعورنا وحتى أحاسيسنا. على هذا الوتر يعلب في حاضرنا السياسيين للتأثير على الناس والمجتمع في السير خلفه لأنه يمتلك الحقيقة المطلقة. معرفة الحالة السوسيولوجية للمجتمع لها أهمية قصوى في تسييرهم والتأثير عليهم. وهذا ما نجح فيه أردوغان خلال سنوات حكمه.
حينما يشتري اردوغان كل وسائل الإعلام ويوجهها وفق سياساته ويقوم بقمع واعتقال وحتى اغتيال كل من لا يسير خلفه ويخرج من القطيع، حينها ندرك أننا أمام حاكم مستبد جعل من شعبه يعيش في مجتمع نمطي ويسير خلف "مرياع" الإعلام. لكن تبقى المشكلة الأساسية ليست في الداخل التركي الذي يدرك نوعًا ما أنه في طريق المواجهة مع دوجمائية أردوغان الذي احتكر الحقيقة المطلقة وجعل من نفسه نمرود زمانه. المشكلة الأساسية تكمن في الخارج. الشخصيات التي من المفترض أن تكون مثقفة ومسؤولة أمام شعبها وكذلك بعض المجتمعات من الشعوب تسير خلف أردوغان وكأنه المهدي المنتظر.

بعض "رجال الدين" الذين وصفوا أردوغان بالخليفة وسلطان المسلمين الذي سيحرر فلسطين، يسعون من وراء ذلك الحفاظ على سلطتهم على الشعوب تحت عباءة الدين والتجارة باسم الدين، والتي باتت التجارة الرئيسية في زيادة رأس المال السياسي. والطامة الكبرى هي أنه هناك من يصدق ذلك ويعتبره من الحقائق التي يؤمن بها.

هذا ما نقصده حينما نقول مجتمع القطيع، الذي ليس له علاقة بالحقيقة ولا الوعي والحرية مطلقًا. إذ، أنه مجتمع أو انسان مخدر فكريًا ولا يزال عبدًا ونحن في القرن الحادي والعشرين. ونتوصل إلى حقيقة أن العبودية ليست لها علاقة بالتقسيم الزماني الذي وصفه لنا ماركس في أنه مرحلة تاريخية وهي من الماضي. بل هي عملية مستمرة مرتبطة بالوعي والبحث عن الحقيقة.

كل من فرح لنجاح أردوغان وراح يطبل ويزمر وكأنه السلطان المنتظر، ما هم في حقيقة الأمر سوى عبارة عن قطيع يسيرون خلفه حتى يحين دورهم كي يتم نحرهم على مقصلة المصالح، والتي برع فيها أردوغان في حالة المعارضة السورية.

أردوغان باع قطيع المعارضة السورية في بازارات المصالح وقضى على كرامة الشعوب التي انتفضت يومًا ما من أجل حريتها. وما تزال هذه المعارضة جالسة في احضان أردوغان ولم تتعظ من الحالة المزرية التي وصل إليها هذا القطيع.

وهناك قطيع آخر من الفلسطينيين الذين ينتظرون أردوغان كي يقضي على اسرائيل ويحررهم، ولا يدرك هذا القطيع أن السبب الرئيس في قيام ما تسمى اسرائيل هي تركيا والسلاطين العثمانيين والدور الكبير الذي لعبوه في وضع اللبنة الأولى لهذا الكيان، قبل انكلترا وما يسمى وعد بلفور. وأنه لولا تركيا أتاتورك وتركيا اردوغان لما بقيت اسرائيل حتى الوقت الحاضر. لكنه القطيع الذي يعيش كما النعامة يطمر رأسه في الرمال كي لا يرى الحقيقة المؤلمة ويفضل أن يعيش في معتقداته الخاطئة على أن يرى الحقيقة. وليعلم أن كل من يناضل من أجل الحرية لنفسه ولا يرضاها لغيره، هو ليس إلا عبدًا.

ويبقى قطيع الاخوان الذين ما زالوا مؤمنين أن أردوغان سيرجعهم إلى ما كانوا عليه قبل سنوات، ونسوا أو تناسوا أن اردوغان سوف يبيعهم في أقرب بازار سياسي كما فعل بالمعارضة السورية، حينما تقتضي المصالح. لأنه في عقلية النظم الحاكمة والمتسلطة لا شيء مهم سوى المصالح البعيدة عن الأخلاق. وهذا هو مبدأ امريكا و "الذي يتغطى بأمريكا عريان" كما يقول المصريين، وكذلك هو مبدأ روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي الاشتراكية سابقًا، لا تبحث سوى عن مصالحها ولتذهب أخلاق الاشتراكية في "ستين داهية".

وتبقى الحقيقة المجتمعية المبنية على أساس أخلاقي هي الأساس في بناء المجتمع السياسي الاخلاقي والذي من خلاله يمكن التوصل إلى معرفة الحقيقة المجتمعية والمرتبطة بالوعي التاريخي للفلسفة المجتمعية. فلا حرية من دون وعي ولا وعي من دون أخلاق ولا أخلاق من دون مجتمع فلسفي يبحث عن الحقيقة بعيدًا عن ثقافة القطيع.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط