الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هيام محيي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني.. التفسير ورجاله

هيام محيي الدين
هيام محيي الدين

تفرد القرآن الكريم من بين سائر الكتب السماوية بـأنه الكتاب المعجز الذي لا يتطرق إليه شك ولا يقع عليه ريب؛ تحدى بإعجازه اللغوي فصاحة العرب؛ وتكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه وتعهد بصونه ولم ينزل علاجا لأمة خاصة ولا دواء لجماعة معينة وإنما نزل ليكون قانون الله تعالى إلى كافة عباده ودستوره إلى سائر خلقه فزوده المولى بأسباب الدوام والبقاء ؛ وحال بينه وبين عوامل الزوال والفناء فقال سبحانه: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا لحافظون " فالله الذي نزل هذا الكتاب وهو المتولي حياطته وحمايته.

والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى وترك القرآن أمانة في أعناق أصحابه مسجلًا كتابة في الرقاع والجلود والعظام ومحفوظا في الصدور والعقول والقلوب؛ بعد أن قام صلوات الله وسلامه عليه بوضع المنهج الرائد لفهم القرآن وتفسيره وتأويله من خلال سنته الشريفة قولا وفعلا، وكان الأعلام من أصحابه يرجعون إليه في حياته إذا استغلق عليهم أمر أو التوت عليهم فكرة؛ ثم حملوا من بعده الأمانة؛ والتزموا في تفسيرهم وتأويلهم منهجًا يقوم على النقل عن رسول الله أساسًا فإن لم يسمعوا في بعض الآيات شيئًا عنه اجتهدوا رأيهم معتمدين على فهمهم الدقيق لأسرار العربية التي نزل القرآن بلسانها المبين.

غير أن الرقعة الإسلامية التي اتسعت بالفتوح لتشمل أغلب العالم المعمور في ذلك الوقت؛ والفتن والمحن التي عاشتها الأمة؛ ودخول أمم وشعوب في الإسلام كانت لها عقائدها ومبادئها وثقافاتها؛ وقد انقضى عصر الصحابة العلماء بالعربية وأسرارها التي توصلهم للمقصود الإلهي من النص القرآني مثل على بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وغيرهم من علماء الصحابة.

و دخل ميدان التفسير الكثير من الأعاجم الذين اعتنقوا الإسلام بعضهم عن اقتناع وإيمان؛ وبعضهم على دخل ودغل ونفاق؛ وقد احترف هؤلاء وأولئك البحث في علوم الدين وجدوا في طلبها؛ وكان تفسير القرآن أحد هذه العلوم التي تولاها هؤلاء الأعاجم عامة؛ وأهل الكتاب منهم خاصة؛ فرأينا في تفسيراتهم سيلا من الإسرائيليات ومن نصوص العهدين القديم والجديد.

 وهكذا بدأ الكدر يشوب موارد التفسير؛ وأخذت الأكاذيب والأساطير طريقها إلى هذه الموارد التي كانت من قبل طاهرة نقية، لم تعكر صفوها الأحاديث الموضوعة؛ والأخبار والروايات المكذوبة؛ والخيالات التي يأباها العقل وترفضها براهين المنطق، ويلوون عنق لغة النص المنزل ليستخرجوا منها أحكاما بعيدة عن المدلول اللغوي لألفاظه وتركيباته المنزلة.

 ولم يسلم من هذه الترهات تفسير واحد من التفسيرات الكبرى مثل تفاسير الطبري والقرطبي والنسفي وابن كثير 
"وهو العربي الوحيد بين المفسدين الكبار ولكنه كان متأخرا زمنيا عمن سبقوه"؛ فقد اعتمدوا جميعًا على الكثير من الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة ومحاولة التوفيق المتعسف بين آيات القرآن العظيم وروايات التوراة وحكم التلمود وأقاصيص أهل الكتاب وأهملوا تقريبًا تعمق النص من ناحية إعجازه البلاغي وتركيبه اللغوي ومعاني ألفاظه التي يشكل فهمها وإدراكها الأصل في معرفة المقصود الإلهي من النص المحفوظ.

 وأسرفوا في القول بنسخ آيات من القرآن لآيات أخرى وجعلوها فرعا من فروع علوم التفسير؛ كما تحدثوا عن أسباب نزول بعض الآيات بصورة تتسم بالميل مع الأهواء وتأييد ما يعتنقون من مذاهب؛ وندر منهم من يلتزم بالتفسير المأثور عن الصحابة والتابعين ، بل ادعوا علم ما توقف الصحابة عن تفسيره من الآيات الكونية والفلكية والعلمية ؛ دون أن تكون العلوم البشرية قد توصلت إلى حقائقها العلمية في عصرهم ففسروها بأكاذيب مضللة تتعارض مع العقل والمنطق وتناقضت بعد ذلك مع حقائق العلم مثل إصرارهم على نفي كروية الأرض أو مركزية الشمس لمجموعتها الكوكبية.

 وإدعائهم أن القرآن نص على غير ذلك لأن فهمهم للعربية كان قاصرا وسطحيا حيث كانت أصولهم أعجمية وأسرار العربية بعيدة عن إدراكهم وتذوقهم ؛ فإذا تأملنا تفسير الطبري مثلا مع اعترافنا بإمامه محمد بن جرير الطبري لهذا الفن " علم التفسير " ؛ وأن تفسيره احتوى فوائد جمة أكبر من أن ينوه بها أو يشار إلا أنه حفل بالكثير من الإسرائيليات التي لا تستند إلى نقل ولا عقل والتي هي أشبه بالخيالات والأساطير، منها بالآثار والحقائق؛ وأوردوا أحاديث تأمر بالتوقف عن رفض أقوال أهل الكتاب رغم أن هذا التوجيه النبوي مشروط بعدم مخالفتها لصحيح الكتاب والسنة ومعظم ما أورده الطبري من الإسرائيليات وأخبار أهل الكتاب لا ينطبق عليها هذا الشرط ، كما أكثر من عرض المسائل الفقهية ويحشد لما يؤيده منها حشدا ضخما من الأسانيد يثير البلبلة والحيرة ؛ لأنه يسرد الأسانيد من غير نقد لها ولا تعريف بأحوال رجالها.

 كما أنه كان يفسر كثيرا من الآيات أو يؤولها غير مستند إلى حجة وتبع الطبري في نفس المنهج من جاء بعده كالزمخشري والقرطبي والفخر الرازي والنسفي حتى الحافظ إسماعيل بن كثير القرشي وهو عربي الأصل لم يسلم تفسيره من كل ما سبق.

 بل يمكننا القول أن تأثره بابن تيمية جعل اعتماده على الأحاديث الضعيفة في تفسيره أكثر ممن سبقوه ؛ كما أن التسرع واللهفة على تسجيل العلوم الذي اتسمت بن كتابات علماء عصر التجميع الذي تلا سقوط بغداد في يد المغول سنة 656 هـ/ 1258م وإغراق مكتبتها العظمى في نهر دجلة ، فاندفع العلماء إلى تسجيل ما حفظه من علم خوفا من ضياعه أدى إلى أن يكون تفسير ابن كثير عرضا لآراء من سبقوه أكثر منه تعبيرا عن رأيه ورؤيته.

 ومع بداية عصر التنوير بعد الخروج من ظلام وجمود العصر العثماني؛ قامت في الأزهر الشريف حركة تنويرية قوية قادها الإمام محمد عبده التي ووجهت بمقاومة ضارية من الشيوخ المحافظين المقدسين لاجتهادات السابقين، وحالت الأحداث الكبرى التي عاشها الإمام محمد عبده وشارك فيها دون استكمال مشروعه الكبير في التنوير ولم يكمل من تفسير القرآن إلا الأجزاء الثلاثة الأخيرة منه.

 وفي النصف الثاني من القرن العشرين ظهر الداعية العظيم الشيخ محمد متولى الشعراوي ؛ الذي جذبت تأملاته في القرآن الكريم أسماع الأمة الإسلامية لأنه اعتمد منهجا يؤكد أن التوصل للمقصود الإلهي يقوم على الفهم الدقيق لألفاظ العربية والمعرفة العميقة بأسرارها وتركيباته اللغوية وبلاغتها وبيانها ومجازها واشتقاقات كلماتها ودلالات أصواتها؛ إلى جانب المعرفة الشاملة لقواعدها النحوية والبلاغية وجرس أصواتها ؛ إعمالا بقوله تعالى " إنا أنزلناه قرآنا عربيًا".

 وتأكيدا للإعجاز الإلهي في صياغته بلسان عربي مبين والتحدي الرباني لفصحاء العرب الذين بهرهم التركيب اللغوي القرآني حتى الكفار منهم الذين شهدوا بعظمة الإعجاز اللغوي لآياته وقد تجنبت تأملات الشعراوي كلمة التفسير حيث تبنى رأيا يقول " لا يفسر القرآن إلا القرآن " ووضع منهجا يعتمد على معنى النص اللغوي كما كان يفهمه أهل عصر الوحي.

 وقبل الشعراوي بسنوات قليلة أصدر الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر السابق كتابه في التفسير، الذي اعتمد المنهج الكلي في التفسير متجنبا المناهج التراثية التي كانت تفسر الآيات بترتيبها داخل سور القرآن والسور بترتيبها داخل أجزائه ففسر القضايا العقائدية والعبادية والسلوكية كما وردت في القرآن كله.

 وتجنب هو والشعراوي الإسراف في موضوع النسخ وتوخي الحذر في ربط الآيات بأسباب نزول غير مؤكدة؛ وبذلك فتح هذان العالمان الجليلان الباب واسعا أمام الباحثين لوضع فهم معاصر لآيات الكتاب المحفوظ في ضوء علوم العصر وقيم وأخلاقيات الإسلام الحقيقية ومصالح العباد.

 وعلينا ونحن نجدد خطابنا الديني أن نستكمل الطريق ونسير على نفس النهج في اعتماد المنهج اللغوي الدلالي والمنهج الكلي لعموم القرآن والتأويل الصحيح الذي يتسق مع العلم والعقل والمصالح السائرة للأمة فالقرآن ليس لعصر من العصور ولا يتوقف فهمه على زمن دون زمن فهو صالح لكل زمان ويتفق مع تطور العلم وتقدم الحضارة.