الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: رامي.. وسيمفونية الحب والوفاء

هند العربي
هند العربي

"اذكريني كلما الفجر بدا ناشرا في الأفق أعلام الضياء.. يبعث الأطيار من أوكارها فتحييه بترديد الغناء.. قد سهرت الليل وحدي بين آلامى ووجدي.. وأنجلى الصبح وهلا وأنطوى الليل وولى.. فتذكرت الذي كان وراحا حين أفنيناه أنسا ومراحا.. وجرى دمعي من فرط حنيني.فارحمي قلبي وحني واذكريني". من قصيدة أذكريني.

لشاعر مصري من أصل تركي اشتهر بشعره الرومانسي باللغة العربية واللهجة العامية، كان أكثر الشعراء شهرة لدى العامة لارتباط اسمه بعشرات الأشعار الغنائية الشهيرة التي تغنت بها كوكب الشرق "أم كلثوم"، وبعدما تحول الشعر إلى أداء غنائي من قبل المغنين في العصر الحديث، كان هو أفضل هؤلاء الشعراء وقتها ممن قدموا الشعر المميز، أنه أمير الشعراء "أحمد رامي" الذي أشتهر بالشعر الرومانسي وأبدع في كتابة الشعر بشكل مميز طوال القرن الماضي، وتنوعت أعماله مابين الشعر والأدب والترجمة، كما لقب بشاعر الشباب، وصاحب ترجمة "رباعيات الخيام"، وصاحب ديوان رامي بأجزائه الأربعة، وأغاني رامي، وغرام الشعراء.

ولد أحمد رامي، في عام 1892 في حي السيدة زينب بالقاهرة، حيث درس في مدرسة المعلمين ثم تخرج منها وسافر إلى باريس في بعثة من أجل تعلم نظم الوثائق والمكتبات واللغات الشرقية وحصل على شهادة في المكتبات والوثائق من جامعة السوربون، ودرس في فرنسا وتعلم اللغة الفارسية وساعده في ذلك ترجمة "رباعيات عمر الخيام "، وعين أمين مكتبة دار الكتب المصرية ومن ثم رئيسا لها، وعين مستشارا للإذاعة المصرية، وحصل علي جوائز عديدة منها جائزة الدولة التقديرية، ووسام الفنون والعلوم، ووسام الكفاءة الفكرية من ملك المغرب بدرجة الدكتوراه الفخرية في الفنون.

لم يكن رامي، مجرد شاعر عابر، وضع في ذاكرة النسيان بمر السنوات، فلا تزال قصائده وأبياته شاهدة على ذوقه وفنه حتي الآن، كما ساهم في 30 فيلما سينمائيا إما بالتأليف أو بالأغاني أو بالحوار، ومن أهم هذه الأفلام "نشيد الأمل"، "الوردة البيضاء"، "دموع الحب"، "يحيا الحب"، التي قام ببطولته الموسيقار محمد عبدالوهاب، كما كتب رامي للمسرح مسرحية "غرام الشعراء"، أما في مجال الترجمة فقد ترجم رامي مسرحية "سميراميس"، و"شارلوت كورداي"، و"رباعيات الخيام"، التي تعد من أهم المحطات في حياته التي شذت بها كوكب الشرق .

"إنني أحب أم كلثوم كما أحب الهرم، لم ألمسه، ولم أصعد إليه، لكني أشعر بعظمته وشموخه، وكذلك هي!". هكذا قال أمير الشعراء في وصفه لأم كلثوم ومدي الحب والهيام بداخله.

وعن حبه لها فكانت قصة حب أفلاطونيا، بعيد عن أي مفهوم مادي أو جنسي، وللمرة الأولى يستمع "رامي" لأم كلثوم كانت من خلال دعوة من صديقه "السيد محمد فاضل"، ليسهر معه في حديقة الأزبكية، وقد حرص رامي على الجلوس في الصف الأول، وما إن فرغت المطربة الشابة يومئذ للغناء، حتى دنا منها "رامي" ودار بينهما الحوار، ومن يومها وقد نبض في قلب الشاعر حبها، وعندما سافرت إلى "رأس البر"، انتظرها وفور عودتها أحيت حفلا في البسفور فذهب اليها، فما إن رأته حتى غنت "الصب تفضحه عيون"، تحية منها إليه، وظل رامي رابطا على قلبه، وقد بدأ حبه لأم كلثوم، وبدأت أغانيه لها حوالي 137 أغنية، لم يتقاض مليما واحدا كمقابل لاشعاره، بل كانت تعبيرا عما يخفيه الفؤاد تجاهها، بل واعتبر كل قطعة يكتبها لها هي قطعة من نفسه وروحه وخياله، وقد اجابها علي اتهامها له بالجنون علي خلفية عدم تقاضيه مبالغ مقابل الأغاني قائلا: "نعم، أنا مجنون بحبك، والمجانين لا يتقاضون ثمن جنونهم، هل سمعتي أن قيس أخذ من ليلى ثمن أشعاره التي تغنى بها!؟".

ولكن ذات مرة كشفت ام كلثوم عن شعورها تجاه رامي وقد جرحه هذا الاعتراف كثيرا عندما قائلت: "أحب في رامي الشاعر وليس الرجل"، فكتب لها أغنية تقول: "عزة جمالك فين..من غير ذليل يهواك، فهو ذاق من ماء كل الشعراء، أي ذاق دمع العين وسهر الليالي والشوق والحنين". وقال لها في أحد الاغاني: "صعبان على اللى قاسيته فى الحب من طول الهجران.. ما اعرفش ايه اللى جنيته من بعد ما رضيت بالحرمان".

فالذي يتأمل كل ما كتبه رامي لـ"كوكب الشرق" يجده دائما يكتب لها ومن أجلها ويعبر عما بداخله فقط تجاها، حتي في الهجران يكتب "يا ظالمني": وأطاوع في هواك قلبي وأنسى الكل علشانك، وأذوق المر في حبي بكاس صدك وهجرانك،ويزداد الجوى بيّا، يبان الدمع في عنيا، وأبات أبكي على حالي، وتفرّح فيّا عُذالي، ولما أشكي تخاصمني، وتغضب لما أقول لك يوم يا ظالمني".

فقد كانت تعلم جيدا أم كلثوم أن رامي يحبها، وعندما تزوجت ازداد شقاؤه وتعاسته، فطلبت منه أن يضع أغنية تقول: "شايف الدنيا حلوة لأنك فيها" للرجل الذي أحبته ثم تزوجته فيما بعد الدكتور حسن حفناوي، فزادت غيرة رامي وقال لها: "أنا شايف الدنيا سودة، أشجارها بتلطم، وأرضها بتبكي"، ومن ثم رفض أن يكتب القصيدة المطلوبة، ولما يئس "رامي" وجد أن للسنوات تمضي والزمن بلا رجعة والارتباط بكوكب الشرق مستحيل، تزوج من إحدى قريباته التي كانت تعلم أنه يحب أم كلثوم وتأقلمت مع هذا الحال، وهو علي الحب والوعد بداخله لمحبوبته الذي مازال يستوحي كل كلماته ويستبطها من حبه لها فيقول: "أصون كرامتى من قبل حبي، فإن النفس عندى فوق قلبي.. رضيت هوانها فيما تقاسي، وما إذلالها فى الحب دأبي".

وعندما توفت أم كلثوم في 1975، دخل "أحمد رامي" في حالة اكتئاب شديدة، ليكتئب ويكسر قلمه ويهجر شعره، لكن عندما دعاه الرئيس السادات إلى حفل تأبينها في العام التالي، أنتجت قريحته الشعرية أروع واقوي واعذب كلمات الرثاء فقد كان يرثي نفسه وحاله قبل أن يرثيها، قائلا: "ما جال في خاطري أنّي سأرثيها..بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها..يا دُرّةَ الفنِّ.. يا أبهى لآلئهِ..
سبحان ربّي بديعِ الكونِ باريها".

وظل "رامي" مخلصا في حبه خلال سنوات أخرى قضاها بعد رحيل حبيبته أم كلثوم، وكان يردد كلما أحس بفقدانها ولهفة قلبه علي لقاءها: "كيف أنسى ذكرياتي، وهي أحلام حياتي؟.. إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي، عشت فيها بيقينى وهى قرب ووصال..ثم عاشت في ظن، ثم عاشت في ظنوني وهي وهم وخيال..ثم تبقى لي على مر السنين، وهي لي ماض".

فقد كان ما يجمع بينهما هو الحب النقي الذي بعيش بعيدا عن اي رغبة، بل كل يوم يزداد شوقا وحنينا، قصة أسطورية يتخللها سيمفونية من الوفاء أبعد من أن تكون علاقة إنسان يحب محبوبه!.

وفي نهاية المطاف.. فهي قصة شاعر، انتقل من مروج النرجس في جزيرة يونانية، إلى حياة القبور، إلى مجامع المتصوف، ثم إلى معاشرة الخيام تحت أضواء باريس، ثم إلى جنة أم كلثوم، والعذاب علي فراقها، الي ان توفي أمير الشعراء في1981، وظل أحمد رامي أحد الخالدين في وجدان الشعب العربي بكلماته العذبة، تاركا لنا ثروة شعرية قيمة رغم رحيله تبقى دائما سنوات وسنوات.