الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

وفي أنفسكم أفلا تبصرون (3)


نواصل هذه السلسلة من المقالات التي خصصناها للتفكر في خلق الله والنظر في أمور تبدو بسيطة لكنها مبنية على أساس علمي متين، وكلما زاد فهمنا لها تحققت الفائدة منها أكثر.. سنلقي اليوم نظرة على ظاهرتي الكلام والغش، ثم نفتش عن "ذاكرة القلب".

الكلام نعمة من نعم الله على البشر لكنه قد يتحول إلى نقمة إذا أسيء استخدامه، فمن أدب الكلام ما ورد في الصحيحين: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" و "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

لكن يحدث أن يندفع بعض الناس ويتكلم في كل شىء وكأنه يخصه، يقاطع الآخرين ويصرعلى أن يفرض رأيه وهو جاهل بتفاصيل الحوار لمجرد إثبات الذات أو الهجوم على المقابل. قال الإمام الأوزاعي "إذا أراد الله بقوم سوءا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل". 

الكلام يكون طبيعيا ومحببا إذا كان مختصرا ومفيدا، وقال بعض الحكماء إن الله جعل لكل إنسان أذنين ولسانا واحدا كي يستمع أكثر مما يتكلم، وقالوا أيضا "خير الكلام ما قل ودل". 

علميا، يقع مركز الكلام عند أغلب الناس على النصف الأيسر من المخ بين منطقتي السمع والبصر، وعند نسبة قليلة على النصف الأيمن، ولأن قشرة المخ مقسمة إلى مناطق كما لو كانت خريطة جغرافية، أعطيت مناطق الكلام الأرقام 22 و44 و45، الأولى تقوم باختيار الكلام وترتيبه، والثانية والثالثة عليهما التنفيذ الحركي والإخراج.. وفقد النطق مرتبط بإصابة إحدى هذه المناطق في حادث أو جلطة دماغية.

وفي حالات قليلة تزيد الكهرباء في هذه المناطق فيفلت الزمام ويصبح الكلام جزءا من مرض عصبي، ونرى الشخص يمارس الخطابة في الشوارع دون كلل أو ملل وكلامه غير مرتبط أو هادف، ولا يهمه أن يكون هناك من يسمعه.

أما الغش فهو خليط من الكذب والسرقة والرغبة في الاستيلاء على ما يملك الغير بطرق ملتوية، وهو صفة مذمومة حذرت منها كل الأديان، ففي سورة هود جاء التحذير صريحا "ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم" (85)، وفي أول سورة المطففين "ويل للمطففين"، وفي الحديث النبوي الصحيح "من غشنا فليس منا".

يحدث الغش في الامتحانات والتجارة واحتكار السلع والرشوة وحتى في المباريات الرياضية عند تعاطي المنشطات، وليس بالضرورة أن يكون الغش مدفوعا بفقر أو حاجة لكنه خلل نفسي في الأساس. 

وعندما لاحظ العلماء أن بعض التوائم المتماثلة ميولها واحدة ومتفقة على الغش، بدأ التفكير في احتمال أن يكون الغش وراثيا، وبالفعل بعد سلسلة أبحاث على غشاشين متطوعين، تم اكتشاف الجين الوراثي المسئول عنه في البشر وسمي (DRD4 gene) وهو الدافع وراء كل حالات الكذب والخيانة الزوجية وسائر أنواع الغش الأخرى، تسانده وتشجعه عوامل ثانوية كالنشأة والتربية والظروف المحيطة.

وبعدما ثبت أن للغش جين وراثي، بدأ التفكير في كيفية اكتشافه قبل الزواج وعند اختيار الأصدقاء، ومن العلماء من ذهب إلى أبعد من ذلك مطالبا بإدراج الكشف عن هذا الجين ضمن التحاليل المطلوبة قبل الزواج أو عند منح ترخيص تجاري.

في السطور المتبقية سنبحث في مقولة يرددها البعض وشغلت علماء المخ أيضا وهي أن "العيون تنسى من رأت لكن القلب لا ينسى من أحب". هذه المقولة تعيد إلى الأذهان خلافا قديما في الرأي بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة حول مكان القلب الذي يفقه ويعقل. الإمام أبو حنيفة قال أنه في الدماغ، وهو الصحيح علميا، بينما أصر الإمام الشافعي أنه في الصدر حصرا، وهذا غير صحيح، حيث تأكد مؤخرا استمرار الذاكرة بعد عمليات نقل القلب. 

نعود إلى تحليل المقولة: كل ما تراه العين من صور يذهب إلى الذاكرة البصرية في الفص الخلفي من المخ، ودرجة نسيان هذه الصور متقاربة لأن نسخة واحدة تخزن هناك من كل صورة.. أما الصورة التي يرافقها إعجاب مصحوب بإفراز هرمونات الحب والارتباط مثل هرمون الدوبامين مسبب النشوة والأوكسيتوسين هرمون التعلق والأدرينالين المحفز لضربات القلب، إذا اقترن كل هذا برؤية الصورة، سترسل نسختين إضافيتين منها إلى مكان آخر في المخ أيضا يعرف بـ "ذاكرة النفس والعواطف" وهو مكان محصن في عمق الفص الصدغي، وما أن تصل الصورة إلى هناك فلن تنسى أبدا وتظل تطل برأسها بإلحاح في خيال صاحبها إلى آخر العمر.

ولا يقتصر ذلك على الحب بين الجنسين، بل يتعداه إلى كل شخصية تترك أثرا أو بصمة في النفس كالوالدين والمعلم والصديق الوفي، وحتى المناظر الطبيعية والأطلال.

إذن، المخ هو من يخزن الصور ويتذكرها وليس القلب، وكل ما يفعله القلب مجرد "ارتجافه" عند خزن الصور المهمة في المخ، ولأن هذا هو الشىء الوحيد المحسوس، نجد القلب يطغى على المخ في الكتابات والأقوال.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط