الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

شعب السعادة.. وشربة ماء!


للسعادة وجهان، وجه يعبر عن الإحساس بالعدل والأمان واحترام الآدمية، فيعيش الإنسان فى حالة من الصفاء النفسى والسلام الاجتماعى، ويا له من وجه كثيرا ما نحلم به ونتمنى استمراره، ووجه آخر يخاطب الغرائز والشهوات ويزرع فى الحياة بذورا شيطانية من المتعة المؤقتة والنشوة الزائفة، والزائلة، فأيُّ الوجهين نبغى ونقصد ونبلغ؟!

تلك الفكرة الفلسفية اصطبغت برسائل سياسية دار فى فلكها الكاتب الواعى وليد يوسف وصاغ منها نصه المسرحى الجديد والمهم "حدث فى بلاد السعادة"، وحوله المخرج الجريء مازن الغرباوى إلى تابلوه بصرى من إنتاج المسرح الحديث رغبة فى إيقاظ الشعب، أى شعب، من سُباته العميق وغفوته المستديمة عندما يستسلم أفراده لمنطق الاحتلال، ونكتشف فى كل مشهد من المشاهد المرسومة بحرفية مسرحية ومهارة لغوية فى الحوار أن ثمة احتلالا واستعمارا أكثر خطورة من مؤامرات الخارج والأعداء، احتلالا صناعة الأمة ذاتها واستعمارا ناتجا عن ضعف أهل الأرض وانحطاط قيمهم وأخلاقهم وانخراطهم فى مفاهيم خاطئة ومنبوذة عن السعادة!

وسار بنا العرض المحترم فى رحلة بحث عن حاكم رشيد من قلب الشعب يقاوم تيار الفساد والمخططات الخارجية ويبنى صرح السعادة الضخم والراسخ، ولكنه يصطدم بصخرتين تحطمان حُلمه الوردى، بَنى وطنه وعملاء عدوه، فتكون فى نهاية الرحلة الإجابة الشافية والصادقة عن الخاسر الحقيقى من هذا الصراع، والمتروكة للجالسين على المقاعد ليجيبوا عن السؤال الكبير عن معنى السعادة وجوهرها!

ونحن نعانى من مُناخ فساد الذوق العام وتراجع مسرح المضمون والكلمة الدسمة وسيادة الدراما المستوردة فى قوالب جامدة مكررة، أنقذنا هذا العرض الشجاع شكلا وموضوعا من براثن هذه الأزمة الكبرى فى محيطنا الثقافى وجدّد الأشواق لمشاهدة نوعية من "أبو الفنون" تحترم العقل والعين وترتقى بالتفكير النقدى للمتلقى، وانطلقت لوحات "حدث فى بلاد السعادة" ممتزجة بتشكيلات حركية مدروسة من المخرج متناغمة مع ديكورات حازم شبل المعبرة، وأزياء مروة عودة المتميزة فى تفاصيلها ومكوناتها.

ومع كل مشهد يتوق المتفرج لرؤية المزيد من الأفكار حول السلطة وكيفية إدارة شئون البلاد وأسلوب تعامل الشعب مع قرارات الحاكم، لنقف عند بعض الثغرات فى ثوب العرض باختفاء بعض الشخصيات من دائرة الصراع لتظهر كالأطراف المبتورة من جسد العمل، فيصبح عُرضةً للتشوه.

وكان من الممكن توسيع رقعة مساحة هذه الشخصيات وتطوير أبعادها وتأثيرها الدرامى فى "ترمومتر" الأحداث، وبما يخدم العمل، ويُثرى من قيمته، وكان أبرز تلك الأدوار المهضومة زوجة الحاكم، والملك الغاصب، ومستشاره المخلص والسجينان اللذان يمثلان صوت الضمير ونور الحق.

وكان الأحرى بالمؤلف والمخرج أن يرسما خيوطا لهذه الحزمة من الشخصيات تساهم فى بلورة الرسالة السياسية المنشودة، وتضفى إيقاعا أكثر تدفقا وسخونة للعرض، مع التقدير الكامل لحرية الإبداع والمعالجة الفنية.

فى عرض كهذا يعتمد على قوة النص ورشاقة الكلمة والحوار، يكون الرهان الأكبر على قوة الأداء المسرحى وطاقة الممثل ليحقق هدفه ويجبر المتفرج على الالتزام بمقعده حتى لحظة إسدال الستار، واستطاع المخرج أن يستفيد من موهبة مدحت تيخة فى دور "المواطن - الحاكم" الحالم بما يتمتع به من خفة ظل وانفعالات متوازنة، غير أنه كان فى حاجة إلى توجيه وإرشادات أكثر لاستغلال ملامحه الطفولية فى رسم صورة الحلم فى الأذهان وتعميق اللحظات الإنسانية مع الشعب بشكل أفضل.

وظهر علاء قوقة بقوة وخبرة مسرحية واضحة داخل عباءة الوزير الشيطان، أما سيد الرومى فى ثوب الملك "الكومبارس" فلم يخاطب الدور قدراته على الإطلاق التى تحمل شلالا من الكوميديا الراقية من واقع تجارب أخرى سابقة تشهد له بالكفاءة والتفرد، ولا نعلم هنا أين التقصير، هل من الفنان أم من السوق التى لا تقدر قيمته وسعره؟!

كما لمسنا وزنا حقيقيا لمحمود الخيامى كمستشار للملك لنتعرف على ممثل يحترم الكلمة ويتحلى بمخارج ألفاظ سليمة وقدرة تعبيرية تلفت الانتباه، ومن مجموعة "شعب السعادة" نستشعر طيفا من جيل الشباب المبدع عندما يقدم لنا أسامة فوزى نفحة من الأداء السهل الممتنع لشخصية "السَّقا" الذى يكافح من أجل توفير شربة ماء عذب تروى الظمأ وتطفئ النيران وتخلصنا من الجفاف الذى شاع وانتشر وصار جزءا أصيلا من حياتنا وميراثنا.

وقد تفوق بقية فريق العمل على مستوى التشخيص والأداء الحركى الجماعى فى حدود المساحة المطلوبة علي رأسهم الفنان الأصيل أداءً وتاريخا حسن العدل، باستثناء الأصوات الغنائية وراء القضبان التى وضعها المخرج فى زاوية المسرح فى دلالة رمزية وتشكيل بصرى مبتكر ينقصه الإضاءة الموحية وتجسيد المؤدين بصدق لحالة الحبس والقمع ليصبحوا إضافة فى نسيج العرض لا مجرد أدوات شكلية.

أما فاطمة محمد على، فلم أكن أتوقع أن يتجاهل مخرجنا الواعد موهبتها التمثيلية ويضحى بها فى مساحة صغيرة دون استثمار لإمكانياتها التى تفوق نجمات بالملايين، خصوصا أن تركيبة الدور تسمح بتداخلها مع البطل وبناء تطورات درامية محورية فى العمل ككل، ولم أفهم أن يُختزل وجودها على الخشبة كمطربة فى ثنائى رائع الصوت مع وائل الفشنى، وإن كان هذا الراوى الغنائى لم ينصهر داخل بوتقة العمل دراميا وفنيا عندما شاهدناهما بالملابس البيضاء الأنيقة، بينما التأثير الأعمق يقتضى ارتداء أزياء من روح الشعب ومفرداته لتظل البصمة مطبوعة بـ "خِتم" الإبداع والاختلاف!

رغم التحفظات الفنية وتباين الرؤى، تبقى قيمة وأهمية التجربة إنسانيا وسياسيا لنصل يوما ما إلى مرتبة "شعوب السعادة" بكل مواصفاتها وشروطها، حكاما ومحكومين، راعيا ورعيته، ولا مجال لبلوغ هذا الحُلم إلا بـ "شربة ماء" من نهر الخير والعدل والعمل الصادق، وبتجفيف منابع الشر الخبيث - سواء المستورد أو ذى الماركة المحلية - والقضاء على عالم المواخير، ودنيا الحانات والغانيات البائعة للسعادة الوهمية ومظاهر التغييب والضياع!

ومن رحم المسرح بنصوصه الجادة وعروضه المتوهجة، تُولد الفكرة وتزدهر وتنمو برعاية الموهوبين المخلصين، ولهذا السبب سادت قاعة "مسرح السلام" مشاعر الاحترام والتصفيق لكل عضو فى عرض "حدث فى بلاد السعادة"، وظنّى أن بداخل كل واحد من الجمهور بعد مغادرة المكان، عنوان "شعب السعادة" الذى يعرفه.. ويحلم به!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط