الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الهجرة.. والإبداع في إدارة الذات ومجابهة الأزمات


لقد كانت هجرة النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين من مكة إلى المدينة حدثًا تاريخيًّا ومحوريًّا، ومنعطفًا مهمًّا في تاريخ الإسلام؛ بل كانت حدثًا فارقًا في تاريخ الإنسانية كلها.. ولم تكن الهجرة أبدًا تغييرًا في الموقف وإنما كانت تغييرًا في الموقع، بعد أن أسرفت قريش في تعذيب مَن دخل الإسلام، وأصرت أيّما إصرار على قتل النبي (صلى الله عليه وسلم)؛ للحيلولة بينه وبين ما يدعو إليه..

نهاية عهد وبداية عهد جديد:

فكانت الهجرة الشريفة نهاية لعهد تعرض فيه المسلمين لأشد أصناف الأذى، ومع ذلك ما ضعفوا وما استكانوا.. ولما أذن الله عز وجل بالهجرة، كانت بداية لانتشار النور في شتى الآفاق..

ولنعرض بعضًا مما ذاقه النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون من ألوان الأذى من جانب المشركين؛ لنستلهم أعظم دروس الصبر والثبات والثقة واليقين في نصر الله ومساندته، لعلّ هذه الدروس تكون عونًا لنا في حياتنا لمواجهة المحن والشدائد التي نتعرض لها بصبر وثبات وثقة في الله تعالى.

بعد أن نزل الوحي على النبي عليه الصلاة السلام ظلت الدعوة سرًّا لمدة ثلاثة أعوام، كان يدعو فيها الأهل والأصحاب والأصدقاء.. وكان مَن آمن منهم يؤدون الشعائر في الشعاب، وبين الجبال، فرأهم المشركون وهم يصلون ويقرأون القرآن، فأمرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) أن يصلوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم (رضي الله عنهم جميعًا).. وبدأت الدعوة تتطور وازداد عدد المسلمين..

الجهر بالدعوة ومعركة ضد الباطل:
ولما صدع النبي (صلى الله عليه وسلم) بالدعوة وجهر بها، حاول المشركون صدَّه بكل السبل والوسائل فلم يفلحوا.. ولما أيقنوا أن أبا طالب لن يخذل ابن أخيه، قرروا أن يصبوا العذاب صبًّا على مَن آمن برسالته، بيد أنهم لم ينجحوا في إعاقة الدعوة الإسلامية.. وأرسلوا الوليد بن المغيرة إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ليعرض عليه عروضًا مغرية علّه يترك ما يدعو إليه، فتلا عليه النبي عليه السلام بعضًا من آي القرآن، فوضع يده على فم النبي، وناشده الله والرحم ألا يكمل. وعاد لقومه بوجه غير الذي ذهب به.. رجع الرجل مأخوذًا بروعة القرآن وجلاله. وقال في القرآن كلماته المشهورة التي خلَّدها التاريخ.. قال: "سمعت منه كلامًا ليس من كلام الجن ولا من كلام الإنس، والله إن له لحلاوة، وإن عليه لتلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه".. حينها اتهموه بالضعف أمام سحر محمد..!!.

وفى هذه الأجواء عذَّبوا مَن آمن عذابًا شديدًا، فأمر النبى عليه الصلاة والسلام المستضعفين بالهجرة إلى الحبشة؛ لأن فيها مَلِكًا لا يُظلم أحد عنده.

ثم انطلقت الجاهلية المسعورة في تعذيب المؤمنين، وقرروا مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب -مَن آمن منهم بمحمد ومن لم يؤمن- مقاطعة شاملة، وعلقوا هذا القرار في صحيفة في جوف الكعبة سنة سبع من المبعث.. فقاسوا خلالها الفقر والفاقة والحرمان..

ثم تتابع الأحداث ويموت أبو طالب (نصير النبي الخارجي) في السنة العاشرة من المبعث، وبعدها بثلاثة أيام ماتت السيدة خديجة (نصيرته الداخلية)، فحزن النبي (صلى الله عليه وسلم) حزنًا شديدًا، فسُمى هذا العام بعام الحزن.. بعدها اشتد إيذاء قريش للرسول، حتى ألقى بعضهم التراب، وسلى الشاة –مخلفات ذبحها- على رأسه الشريف عليه السلام وهو يصلى.. حينها قرر الخروج إلى الطائف، وهو غير عابئ بمشاق السفر وويلاته، علّه يجد هناك نصراء للدعوة إلى الله؛ فما كان منهم إلا أن سخروا منه، وأمروا سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويلقونه بالحجارة، واتبعوه فدخل بستانًا، فانصرفوا عنه وقد أدموه وأرهقوه..

ومن شدة حنق المشركين عليه لم يستطع دخول مكة بعد تركه الطائف إلا في جوار المطعم بن عدى، وكان هذا الجوار حينئذ ضروريا.. وفي هذه الأثناء فاجأ النبى (صلى الله عليه وسلم)، قريشًا بحادث الإسراء والمعراج، فاشتدت في إيذائها له ولمن معه، ولم يزده ذلك إلا ثباتًا ويقينًا.. لم يقنط ولم ييأس من روح الله.. بل ظل يقود معركة الحق ضد الباطل بهمة وقوة ونشاط..

وكان النبى (صلى الله عليه وسلم) يدعو القبائل في موسم الحج، إلا أنه كان يُقابَل بالإعراض.. ومع ذلك لم ييأس.. ثم عرض الإسلامَ على ستة نفر من أهل يثرب من الأنصار (وبالتحديد من الخزرج) وتلا عليهم بعضًا من آي القرآن، فاستجابت قلوبُهم لنداء الله، وأصبحوا دعاة للدعوة الجديدة في بلادهم..

المشركون يسقطون في غياهب التيه والتخبط:

وفي العام التالي التقى بأناس آخرين من الأنصار فأسلموا وبايعوه وكانوا دعاة للإسلام أيضًا، فكثُر أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) في يثرب، فلما كان الموسم التالى خرج جماعة من الأنصار للقاء النبى (صلى الله عليه وسلم) مستخفيين، وقابلهم النبى ليلا عند العقبة وبايعوه على الإسلام والنصرة، وأن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه..

ولما علم المشركون أن كثيرًا من الأنصار دخلوا في دين الله، وأن محمدًا أمر أصحابه بالهجرة إليها، جُنّ جنونُهم وأصابهم الهوس، وسقطوا في غياهب التيه والتخبط؛ لأنهم يعلمون علم اليقين ذكاء محمد العظيم وتخطيطه المحكم، ويعلمون مكانته السامقة عند أصحابه، وأنهم يحبونه ويسيرون على دربه.. كما كانت قريش تعلم جوانب الخير في الأوس والخزرج، وأنهم أهل حرب ويجيدون النـزال، وبالتالي سيكونون الركيزة الأساسية والحصن الحصين لمحمد ولدعوته بعد دخولهم جميعًا في دينه، وأن يثرب (المدينة المنورة فيما بعد) تتميز بموقع جغرافي استراتيجي متميز؛ حيث إن طرق التجارة من مكة إلى الشام تمر بالقرب منها، ومن ثمَّ فإن تجارتهم التي تُعدُّ مصدر دخلهم الأساسي مهددة، ذلك أن تجارتهم إلى الشام كانت تقدر في هذه الأونة بربع مليون دينار من الذهب، وكانت قريش تعتقد أن محمدًا بعد أن يكثُر أتباعه في يثرب سيأتي إليهم في ديارهم..إلخ.

حينها اجتمع صناديد قريش للنظر في القضاء على محمد عليه السلام ومن ثم القضاء على شأفة الإسلام من جذورها، فوضعوا خطة شيطانية لقتله (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تقوم لدعوته قائمة، وتفريق دمه بين القبائل حتى لا يستطيع بنو هاشم أن يأخذوا له بثأر..

والعجيب الذي يثير الدهشة والاستغراب أنه على الرغم من إسرافهم في التعذيب والتنكيل وإصرارهم على شركهم وبغيهم وإجرامهم وكبرهم، إلا أنهم أُخذوا ببلاغة القرآن وروعة تراكيبه وأسلوبه وهم أهل الفصاحة والبيان، حتى أنهم كانوا يخرجون في جوف الليل؛ ليسمعوا آيات الله التي يتلوها محمد، وكان كل منهم لا يخبر أخاه بما يفعله من سماع القرآن ليلا، وفي ليلة من ذات الليالي أبصر بعضهم بعضا وهم يتخفون لسماع القرآن، فدار بينهم حديث ينم عن إعجابهم لهذا القرآن كما قال د. محمد الدسوقي في كتابة الماتع عن الهجرة.. ولكن هيهات هيهات.. فقد حالت عصبيتهم وجاهليتهم دون الإيمان..

حتمية الهجرة:
ولقد كانت حتمية الهجرة إلى يثرب بعد أن أمست مكة بالنسبة لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ومن آمن به، بلد الذل والهوان؛ لينعم الرسول (صلى الله عليه وسلم) والمسلمون بمزيد من الاستقرار، لنشر الدعوة العالمية في كل مكان..

وبالهجرة الشريفة انتقلت الدعوة الإسلامية -من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة- نقلة نوعية، وفيها ومنها انتشر نور الإسلام في جنبات الدنيا كلها؛ ليبعث الأرواح في الأجساد، ويضخ ينبوع الإيمان في القلوب الميتة، وينير لهم طريق الخير، ويؤسس لهم قواعد الأمن والاستقرار، ويحمي هذا الوجود من التيه والضلال؛ لذلك استحقت الهجرة المباركة أن تكون بداية التأريخ والتقويم للمسلمين.

النبي صلى الله عليه وسلم وفكره الاستراتيجي في إدارة الهجرة:

ولم تكن عميلة الهجرة أمرًا سهلا أو ميسورًا، بل على العكس تمامًا.. فقد استجمع النبي عليه الصلاة والسلام، كل قواه الفكرية والعقلية، وأخذ يفكر ويدبر ويخطط لإدارة الهجرة، ويبدو أنه كان يخطط لها منذ فترة طويلة.. وذهب إلى رفيق دربه وصاحبه أبي بكر الصديق في وقت الظهيرة، في تحرك غير معهود له في مثل هذا الوقت؛ ليخبره بالهجرة، وأخبر عليًّا بن أبي طالب بها، وطلب منه أن يبيت مكانه، ويتغطي بغطائه، تمويهًا وتغطية على المشركين، ولكي يرد الأمانات إلى أصحابها، وكان رسول الله بمكة الحافظ الأمين وليس أحد عنده شيء يخاف عليه إلا وضعه عنده عليه السلام؛ لصدقه وأمانته ووفائه.. وهنا يتجلى الأدب العالي والحب العميق من على -كرم الله وجهه- للرسول عليه الصلاة والسلام، ‏ويقول له: نفسي لك الفداء يا رسول الله.. ولم يخف عليٌّ من المشركين، ولم يخش على نفسه من القتل في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار، فداء لدين الله ولرسول الله..

ويخرج النبي وصاحبه في جوف الليل، ولم يكن يعلم بخروج النبي (صلى الله عليه وسلم) حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.. وحينما خرج النبي من بيت أبي بكر كان يعلم علم اليقين أن قريشًا ستُجِدّ في طلبه هو وصحبه، وأن أنظارها ستتجه صوب طريق المدينة الرئيس (نحو الشمال)؛ فخدعهم عليه الصلاة والسلام واتخذ طريقا معاكسًا تمامًا، حيث سار وصحبه في اتجاه الجنوب نحو اليمن، وظلا يسيران خمسة أميال على أطراف أقدامهما -حتى لا يرى أحد من الأعداء آثار الأقدام فيصل إليهم- من لحظة خروجهما إلى أن وصلا جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى..

وكانت أسرة أبي بكر جميعها مسخرة ومهيأة بكل طاقاتها؛ لدعم الهجرة، بل كانت بمثابة غرفة عمليات للإمداد والتموين، لمدِّ الرسول ومن معه بالخدمات "اللوجيستية، والمخابراتية".. وغيرها مما يخدم تحرك سفينة الإسلام إلى بر الأمان، فكان ابن أبي بكر يمدهما بأخبار قريش ليلا، وكانت أسماء بنت أبي بكر تمدهما بالزاد والماء، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يقوم بمحو آثار الأقدام بالأغنام والإبل؛ تعمية وتمويها على المشركين.. والعجيب أن يستأجر الرسول عليه السلام، رجلا يُسمى عبد الله بن أريقط وهو غير مسلم؛ ليكون دليل الركب من غار ثور إلى المدينة المنورة، وليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين.. هذا الرجل الذي ذهب إليهما بالراحلتين بعد أن سكن البحث عنهما، وأقام بمكة كل المدة التي مكثها النبي في الغار أمينًا على السر حفيظًا عليه..

الانتقال بالدعوة إلى آفاق أرحب:
وشاءت أقدار الله العلي أن يحفظ محمدًا وصحبه في هذا الغار بخيوط العنكبوت، وأن يسير بالإسلام إلى المدينة المنورة؛ لينتقل بهذه الرسالة الخالدة من الوادي الضيق، إلى المدينة المنورة.. تلك المدينة التي انتقلت الدعوة من خلالها إلى مرحلة العالمية.. وفي هذه البقاع التي نورها الله تعالى برسوله (صلى الله عليه وسلم).. استطاع وبمجرد استقراره فيها أن ينظمَ علاقةَ الإنسان بربه من خلال بناء مسجده في هذا المكان الطاهر، ذلكم المسجد الذي كان مركزًا للقيادة العامة للدولة الإسلامية.. وكان مدرسة وجامعة لمحو الأمية وتعليم الناس.. وكان معسكرًا لتجهيز الجيوش وشحنها بالقوة الروحية والمعنوية.. وكان مركزًا للشورى والديمقراطية وإدارة الذات الإنسانية ومجابهة الأزمات، واحترام حرية الفكر والتعبير والاعتقاد... تجلى فيه احترام النبي عليه السلام لعقول أصحابه الكرام.. كما كان مقرًا للقضاء بين الناس.. ومنه استطاع (صلى الله عليه وسلم) أن ينظم علاقة الناس بعضهم ببعض من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والمؤاخاة والصلح بين الأوس والخزرج، بعد الحروب والصراعات التي استمرت بينهما سنوات مديدة وخلفت أعدادًا كبيرة من القتلى وأصحاب العاهات.. كما تمكن عليه الصلاة والسلام أن ينظم علاقة المسلمين بغير المسلمين، من خلال الوثيقة (دستور المدينة) تلك الوثيقة الخالدة التي حددت أسس العلاقات الدولية بين المسلمين وغير المسلمين.. فحددت حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية، وواجبات المسلمين نحوهم، من حيث حماية أنفسهم وأموالهم ومعتقداتهم وغيرها، كما حددت التزاماتهم نحو الدولة التي يعيشون فيها.. ومنها استطاع (صلى الله عليه وسلم)، أن يرد كيد المنافقين والمشركين.. وأن يُرسي القواعد المثالية -التي يجب أن نباهي بها الدنيا- في آداب الحروب، ومعاملة الأسرى.. ومنها أرسل النبي (صلى الله عليه وسلم) رسائله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإيمان بالله الواحد الأحد.. وفيها دخل الناس في دين الله أفواجًا..

الهجرة وتغيير مجرى التاريخ:
كانت الهجرة المباركة تغييرًا حقيقيًّا لمجرى التاريخ من خلال انتقال الدعوة من بيئة صيرها أهلها المشركون بيئة فاسدة ناصبت النبي (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين العداء والاضطهاد، إلى بيئة نقية وجدت الدعوة فيها كل أسباب النماء والتطور والانتشار تحقيقًا لعالميتها، ونشرًا لنور الإسلام في كل مكان..

دروس وعبر:
إن الهجرة الشريفة ذاخرة بالدروس والعبر التي يجب أن نستفيد منها ونسير على نبراسها ومنوالها.. نتعلم منها الأخذ بالأسباب والتوكل الكامل على الله سبحانه وتعالى، فالنبي عليه السلام، أخذ بالأسباب وترك النتائج لله، فأخذ الدليل للطريق، والرفيق في الطريق، والزاد والراحلة، ومن يستطلع له الأخبار، ومن يمحو له أثر الأقدام، ومن يؤدي الأمانات لأصحابها.. بل جهّز وسائل السفر قبل الهجرة بوقت طويل؛ حيث ظلَّت الرواحل تُعلف أربعة أشهر قبل الهجرة استعداد لهذه الرحلة الطويلة، ولكي تقوى على السفر دون كلل أو ملل.. ونتعلم من الهجرة العزة والكرامة والحرية، وأن المؤمنين لا يرضون أبدًا بالدنية في دينهم ودنياهم مهما كلفهم ذلك من بذل الأنفس والأموال وكل يما يملكون.. ونتعلم من الهجرة الصبر والثبات على الحق وعلى المبدأ على الرغم من كل المغريات والتعذيب والاضطهاد، ونوقن بأن النصر مع الصبر، وأن الله تعالى لن يجمع على عبد عسرين، ونؤمن إيمانًا كاملا بالثقة في وعد الله بالنصر للمجاهدين، وأن تقوى عزائمنا في مواجهة الأخطار والضلال والظالمين، ونعلم بأن الحق يظهر على الباطل بمدى إخلاص المؤمنين للحق، وبذلهم الأموال والأنفس في سبيله، أما إذا أخلدوا إلى الدعة والوهن والكسل، وظنوا أن السماء لن تترك حقهم فريسة للباطل فهم حينئذ من الواهمين؛ ذلك أن نصر الله لا ينـزل إلا على العاملين المخلصين يقول تعالى: (..إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:8)، ونتعلم الشجاعة والشهامة والمروءة والنخوة من عليٍّ –كرم الله وجهه- الذي نام مكان النبي (صلى الله عليه وسلم) فداء له ولكي يرد الأمانات إلى أصحابها، وهو يعلم علم اليقين أن البيت محاصر ومحاط بفتية يحملون السيوف ليقتلوا صاحب هذا الفراش، لقد رضي سعيدا أن يتغطى ببردة النبي وأن يواجه خطر الموت فداء للرسول ولدعوته، ولم يتردد لحظة واحدة بل قال له: نفسي لك الفداء يا رسول الله.. ونتعلم الإخلاص والحب في الله والصدق والبذل والعطاء من أبي بكر الصديق الذي رافق النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة وهو يوقن بأنها محفوفة بالمخاطر؛ بل وسخر كل أسرته في سبيل الهجرة.. ويلدغ في قدمه ولم يحركها حتى لا يوقظ رسول الله، بل ظل ساكنًا ساكتًا، لم يتحرك والدموع تنهمر من عينيه بغير إرادته.. ونتعلم من ابنته أسماء التضحية وعلو الهمة في سبيل نصرة الحق بصعودها الحبل الوعر الشاهق، وهي حامل في الأيام الأخيرة للحمل، ولم تعبأ بالصعود والنـزول من الجبل العالي فداء للرسول ولدعوته.. ونتعلم من الهجرة التخطيط العلمي الدقيق في كل أمورنا، واستخدام شتى وسائل القوة العقلية والفكرية لتحقيق الأهداف المنشودة للأمة الإسلامية.. ونتعلم كذلك حب الوطن والانتماء. ونتعلم منها الإيثار والمؤخاة، وأن صلة العقيدة بين المسلمين فوق وشائج القربى، وأن رحم الإيمان أقوى من رحم الأبدان، ذلك أن الإيمان هو الذي جعل المهاجرين يتركون وراءهم كل أموالهم في مكة، وهو الذي جعل الأنصار يؤثرون المهاجرين بأموالهم وديارهم.. إلخ، وهو الذي جعل الأوس والخزرج يدًا واحدة بعد الحروب الطاحنة التي دارت بينهما سنوات مديدة، وخلَّفت القتلى والجرحى وأصحاب العاهات، وما يوم بُعاث منّا ببعيد..!!

الهجرة وتحرير البشر والعقول:

لقد كانت الهجرة المباركة تحريرًا للناس، من إكراه الناس على عبادة ما يريده السادة والطغاة، من عبادة الأوثان، وتخليصًا لهم من نير الاستبداد وحكم الطغاة؛ ليحيا الناس أحرارا فيما يدينون به، ومن ثمَّ كانت الهجرة الشريفة ثمنا للحرية الدينية ومؤصلة لها؛ فقد كانت البشرية في أمس الحاجة إليها في ذلك الزمان..

آخر الكلام:

أما آن لنا نحن المسلمين أن نهاجر لله.. نهاجر بألسنتنا من الكذب وشهادة الزور والنفاق والظلم والاستبداد إلى الصدق وذكر الله وقراءة القرآن والعدل ورد الحقوق لأصحابها.. نهاجر بأعيننا من النظر إلى الحرام إلى ما أحل الله.. نهاجر بآذاننا من التجسس والتصنت وسماع ما يغضب الله إلى سماع القرآن وكل ما يرضي الله.. نهاجر بأيدينا وأرجلنا وفروجنا وكل جوارحنا من معصية الله إلى طاعة الله... إن أعظم هجرة هي هجرة القلب؛ فالقلب المهاجر إلى الله هو القلب الذي يتعلق بالله فلا يلتفت إلى سواه، وأعظم بها من هجرة..!! وكل عام وحضراتكم بخير.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط