الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عقول خارج مداراتها


مفتاح الإنسان هو أفكاره، والأفكار متغيرة يمكن إعادة تشكيلها، هي تشبه العادات والطقوس الحياتية اليومية، غير أن بعض العقول تشبه في حركتها الفكرية ( الكواكب ) التي تدور في مداراتها الطبيعية محافظة على استقرار وثبات حركتها، وبعض العقول قد تنشط حركتها بفعل مثير ومحفز، فتحاول أن تتفلت من مداراتها، وكأنها تشبه الإلكترونات أو البروتونات التي حفزها الفيزيائيون فتتصادم وتتفتت إلى أنواع من الكواركات ....هكذا تتحطم دعاوي التجديد في الفكر الإسلامي غير المدركة لطبيعة الثوابت الدينية للدين الإسلامي؛ لأن دعاة التجديد الذين يحاولون أن ينزعوا الفتيل دون علم يفجرون القنبلة في أنفسهم وفي الجميع.
ولما كان حديثنا في المقال السابق عن صراع المركزيات في الفكر الإسلامي والفكر الغربي، فأردت أن أكشف النقاب عن بعض ثوابت الدين؛ لأسد فجوة أمام المتخبطين بدعوى التطوير والتجديد؛ ولأضع حجر عثرة أمام المرتزقة المهاجمين لكبار العلماء والأئمة والصحابة بدعوى أن فكرهم يحث على العنف ونبذ الآخر، ويزعم بعض دعاة التجديد في الفكر الإسلامي الذين ظهروا حديثًا في الفضائيات والصحف والإعلام.. أنهم يرمون بدعاوي التجديد إلى استيعاب الآخر، وسد الفجوة بين الشرق والغرب ؛ لمواكبة التطور... فهم عندي بمثابة تلك العقول التي تحاول أن تتفلت من مداراتها، والتي تحاول نزع الفتيل دون وعي .
أقول لهم: إن أول الثوابت الإسلامية القرآن الكريم ثم السنة النبوية ثم إعلاء قيمة وأفعال الصحابة ثم الموالاة بين المسلم والمسلم: وهنا أبسط الأمر قليلًا، فالمسلمون أخوة، ولا يجوز أن يعتدي مسلم على أخيه، يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) ، ويقول تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103
وأما الأحاديث فكثيرة جدًا فمنها قوله (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا..) (رواه مسلم)
وقوله (صلى الله عليه وسلـم): ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم: كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) (متفق عليه)
وقوله (صلى الله عليه وسلم): (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (متفق عليه).. وقوله (صلى الله عليه وسلم): (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) (رواه مسلم)، ويترتب على هذا الثابت، تحريم كل ما يدعو إلى فرقة بين المسلمين، فقد جاء الإسلام بتحريم كل عصبية ، سواءً أكانت لفئة أو قبيلة، أو جماعة، أو إقليم، وقد ذم علماء الإسلام من تعصب لمذهب من المذاهب الفقهية؛ لأن هذا يؤدي وقد أدى إلى فرقة بين المسلمين .
من هنا يجب تتبع المركزيات الثقافية التي تنغلق على نفسها في أفكار بعينها فيما يشبه الدوائر الصغيرة داخل الدائرة الإسلامية الكبرى؛ لهدم عصبيتها، وانغلاقها في أفكار بعينها تسيء للإسلام على حين يظن كل منها أنه على صواب والآخر على خطأ، فإذا ما فتتنا الحلقات الصغيرة ، وأصبحت الثقافة الإسلامية مشرب واحد ومورد واحد بات الأمر إلى أمة واحدة ودائرة واحدة لها نفس المورد ونفس المنزع ونفس الثقافة .
والحق يقال : وقع في المسلمين مخالفات كثيرة لهذا الأصل الثابت من دينهم، فقد تفرقوا بأسباب كثيرة ترجع إلى الفرقة بسبب الدين، وبعضها يرجع إلى الفرقة بسبب الدنيا، فأما الفرقة بسبب الدين فقد قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة..) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني في صحيحه الجامع (1083)
وهذا الحديث بيان لقول الله تبارك وتعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (البقرة:213)..
ولقد وقع بسبب فرقة المسلمين في الدين بلاء وشر عظيم في الأمة سفكت بسببه الدماء، واستبيحت كل الحرمات وبسببه تغلب أهل الكفر في أوقات كثيرة على أهل الإسلام كما قال تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (الأنفال:46)، وأما الفرقة بسبب الدنيا فأسبابها عديدة ومرجع ذلك إلى التنافس في الدنيا، وحب النفس، وقد جاء الإسلام بالتحذير من ذلك كما قال( صلى الله عليه وسلم): (أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا، قالوا: وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال: بركات الأرض..) (متفق عليه)
وقوله (صلى الله عليه وسلم): (.. أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم) (متفق عليه)..وصراع المسلمين بسبب الدنيا التي فرقتهم إلى أوطان ودويلات متحاربة متعادية، وفئات وجماعات متنافسة متخاصمة... وفي سبيل هذا التنافس والتباغض بل والتحارب، ضـاع العمل بأصل الموالاة بين المسلم والمسلم ، يقابل ذلك ثابت عظيم من ثوابت الإسلام ، ألا وهو ( البراءة من الكفار): فقد شاءت إرادة الله أن ينقسم الناس إلى مؤمن وكافر، كما شاءت إرادة الله أن يظل العداء بين الطائفتين قائمًا إلى يوم الدين، وسنة الله في خلقه لاتبديل لها فهو أعلم بمن خلق وهو اللطيف الخبير، فهى سنة كونية ثابتة لا ينكرها إلا مخادع ومضلل يحاول أن يخدع المتغافلين عن شريعتهم .
قال تعالى: ( قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) (الأعراف:24)..
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118 ) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود:118-119)، ومن أجل سنة الله هذه في خلقه وعباده ، أمر الله الرسل وأتباعهم أن يجاهدوا الكفار بأنفسهم وأموالهم وألسنتهم.
وأن يوالي أهل الإيمان بعضهم بعضًا، وأن يعادي أهل الإيمان أهل الكفران، فلا يحبوهم، ولايركنوا إليهم، ولذلك أوجب الله على أهل الإسلام مفارقة ما عليه آباؤهم وأهلهم من الكفر، ومعاداتهم في الدين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة:23)
وأوجب كذلك _ سبحانه وتعالى _ معاداة الناس جميعًا ممن اتبع غير دين الإسلام ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة:51)، وجعل الله سبحانه وتعالى موالاة ونصرة المسلم للكافر على المسلم كفرًا به _ سبحانه وتعالى _ كما قـال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:28-29)
وقال (صلى الله عليه وسلم): (بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم) (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (2831))، وفي أهل الكتاب أمر النبي( صلى الله عليه وسلم) بقتالهم ليسلموا أو يدفعوا الجزية كما قال _ سبحانه وتعالى _: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) (التوبة:29)، والحذر من اتخاذهم أولياء بل ولا بطانة وأعوانًا. كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ) (آل عمران:118)
هذه الثوابت والأصول بأدلتها من القرآن والسنة النبوية، يحاول بعض دعاة التجديد سترها وإخفاءها؛ ليوفقوا بين الشرق الإسلامي والغرب الأوربي بزعم منهم.. أنهم يخدمون الشرق ليواكب الحضارة الغربية .
إن من يهاجمون البخاري وغيره من علماء الإسلام، ويتهمونهم بالعنف في حقيقة الأمر هم يهاجمون أصول ثابتة من الدين قطعية الثبوت بالقرآن والسنة ، فإذا ما انتصروا فسيعمدون إلى نصوص الدين ويعيدون تأويلها وفق شريعتهم الجديدة ...أقول لهم : إن لدينا دائرة كبرى ومركزية كبرى لا تحاولوا التفلت منها ، حتى لاتتحطم أنوفكم على صخرة الدين ، وإن شريعتنا تسعنا وتدعونا إلى التفكر والبحث والعلم وفق مدار لا نتفلت منه، ولا نحيد عنه وأما شرف العلم والتقدم الذي دعانا إليه الدين ، ما حرمنا منه سوى التشتت والتحزب والتفرق وللإستعمار وأعوانه من أبالسة المنافقين أكبر الأثر فيه، فما وجدوا نارًا إلا ونفسوا فيها حتى تشتعل فتحرق أمة قادت الأمم بتطبيقها لمنهج الله فلما ابتعدنا عن الله صرنا أضعف الأمم ، وإن جهودنا لابد أن تنصب على التوحد وجمع الكلمة وتصحيح المفاهيم التي فرقت بيننا وشتت صفنا ووحدتنا .

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط