الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ماسبيرو المُفترى عليه: منارة العقل (1)


في العام 1934م وتحديدًا في الحادي والثلاثين من شهر مايو، شهدت مصر والعالم العربي انطلاق الإذاعة المصرية الرسمية؛ وأصبح بإمكان الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج أن تتنفس عبير الفن والموسيقى من مصر وأن تتجرع الثقافة كالماء الزلال عبر إذاعتنا الحبيبة، لتبعث الحياة في العقل العربي، فاستحقت أن تغدو سيدة إذاعات العرب.

ويشهد مبنى الإذاعة العتيق القائم في شارع الشريفين، منارة الفن والثقافة، والذي أذاع منه البكباشي أنور السادات بيان ثورة يوليو، أنه احتضن كبار الفنانين وساهم في بناء مجدهم، فللمرة الأولى قدم فريد الأطرش موسيقاه على العود عام 1934 وهو لا يزال شابًا عبر الإذاعة المصرية إلى أن منحه مدحت عاصم فرصة عمره لينطلق عام 37 مطربًا متميزًا؛ كما جعلت الإذاعة من صوت العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ منبرًا لثورة يوليو، أما العمالقة أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد المطلب وغيرهم فقد كانت رحلتهم الأولى تفيض نَصَبا، من فيلا أحمد شوقي إلى قصور كبار الأمراء إلى الحفلات العامة على مسارح الأزبكية، في منافسة شرسة مع منيرة المهدية وصالح عبد الحي وغيرهما، ولم تكن ثمة وسيلة للانتشار الجماهيري لهم سوى أجهزة الجراموفون والأسطوانات بمقاساتها المختلفة.

ومع انطلاق الإذاعة تمكنوا هم وغيرهم من الوصول إلى قلوب العرب جميعًا، سواء بنقل حفلاتهم على الهواء مباشرة أم بالغناء في استديوهات الإذاعة مع البث المباشر في ذات الوقت أم من خلال الأسطوانات التي كانت تبثها الإذاعة المصرية للعالم العربي.

وأخيًرا - مع افتتاح الإذاعة المصرية- تخلصت الحكومة من فوضى المحطات الإذاعية الأهلية التي كانت تتردد عبر أثير القاهرة، لدرجة أن المرء كان بإمكانه أن يلتقط موجة بعينها وهو سائر في شارع عدلي ليتحول نفس المذياع تلقائيًا إلى موجة ثانية والمرء يجاور دار الأوبرا.

ولم تقف محطات الإذاعة المصرية محلك سر، بل جاهدت وطورت من نفسها عامًا بعد العام، ولعل أبرز محطاتها كانت إذاعة صوت العرب، التي انطلقت في عام 1953م كدانة موجهة نحو صدر الإستعمار والحركة الإمبريالية، وهي التي شهدت حالة الثورة التي عاشها المصريون بعد يوليو 1952، وحركة البعث القومي التي بثها جمال عبد الناصر في الشعوب العربية والأفريقية المُستعمرة، في وقت كانت هيئة الإذاعة البريطانية تتفنن في تقوية إرسالها الموجه من جزيرة قبرص نحو العالم العربي لتبث لنا البيانات الكاذبة والأخبار المشوشة بما يخدم مصالح بريطانيا والحركة الصهيونية في المنطقة، وبما يقلل من تأثير إذاعة صوت العرب، التي ألهبت الجماهير العربية، وجعلت من مصر قبلة للثوار.

وقدمت صوت العرب منذ تأسيسها العديد من الكوادر الإذاعية الذين تركوا بصمة واضحة، كان من أشهرهم: أحمد سعيد، ويحيى أبو بكر، وسعد زغلول نصار، وأمين بسيوني، وحلمى البلك، وحمدي الكنيسي، وأمينة صبري، ونبيلة مكاوي، وعبد الرحمن رشاد، وزينهم البدوي، وشريف عبد الوهاب وغيرهم.

ويكشف البرنامج الثقافي الذي افتتح في عام 1957 عن بعد نظر الإذاعيين المصريين ومدى رقي أذواقهم وتذوقهم للفنون والآداب والموسيقى العالمية، حتى أصبح محرابًا للمثقفين، تسمو به أرواحهم في سماء الثقافة العالمية والمقطوعات الموسيقية الفريدة وحفلات الأوبرا العالمية وغير ذلك من ضروب الفن الرفيع.

ما زلت أذكر كلمات أحد أصدقائي الكويتيين الذي قال لي نصًا: "كنت أحضر رسالتي للدكتوراه في السبعينات بجامعة الإسكندرية مستمعًا كل مساء إلى البرنامج الموسيقي، وعلى أنغام الطرب المصري الأصيل، وقد سجلت شرائط لا حصر لها من البرنامج الموسيقي حملتها معي عند عودتي إلى الكويت".

وإذا كانت إذاعة البرنامج العام، هي المحطة الأم، التي انطلقت منها جميع الخبرات والكفاءات إلى الإذاعات الأخرى بماسبيرو، إلا أن أعظم ما حققه ماسبيرو في مجال الإذاعة بعد بناء وتشكيل الوجدان العربي هو تصدير الكوادر الإذاعية المصرية إلى جميع الإذاعات العربية الوليدة من مذيعين ومهندسين ومخرجين وفنيين وغيرهم، مما منح ماسبيرو شهادة الجودة العالمية قبل أن نعرف أسس الجودة الحديثة؛ فقبل أن يعرف العرب كيف يعمل البث الإذاعي كان أبناء ماسبيرو، وما زالوا، هم المعلمون بلا منازع.

أقول هذا لأصحاب الأقلام السوداء والعقول المنغلقة والأبصار الزائغة التي خطفها بريق المال والشهرة على حساب أصول المهنة وشرفها؛ أولئك الذين يهاجمون ماسبيرو ليل نهار، متناسين أن ماسبيرو هو منارة العقل والمدرسة الأم التي قدمت أعظم المذيعيين والإعلاميين والمثقفين والفنانين على مستوى الوطن العربي بأسره، والذين بعلمهم وإخلاصهم وإتقانهم للعمل جعلوا الإذاعات العربية لأليء براقة على شطآن العرب.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط