الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هيام محيي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني (12) الفصل الثاني.. مناهج البحث.. المنهج الكلي ومقاصد الشريعة

صدى البلد

المقصود بالمنهج الكلي في التعامل مع النص الديني للوصول إلى المقصود الإلهي منه هو التعامل مع النص كوحدة كلية متكاملة ؛ وليس كجزئيات مستقلة لكل منها مفهومها الخاص الذي لا يرتبط بالنص الكلي الكامل فالنص المنزل المحفوظ المتمثل في القرآن الكريم كما وصفه الله تعالى في أكثر من موضع منه كتاب أحكمت آياته من لدن حكيم خبير ، قيما لا عوج فيه ؛ ولا اختلاف ولا تناقص .

 ولكن كل من تعرضوا لتفسيره عبر العصور السابقة من الإمام الطبري ومن تلاوة من المفسرين تعاملوا مع القرآن كآيات منفصلة تفسر كل منها على حدة ؛ مما أدى إلى ظهور ما سموه بالنسخ حين أسقطتهم طريقتهم في التفسير الجزئي في وهم وجود تناقض أو تغيير لأحكام وتشريعات فيلغى المعنى الجزئي للآية اللاحقة معنى جزئيا أنزل في آية سابقة ولو تعاملوا بالمنهج الكلي أي النظر إلى كل قاعدة عقائدية أو فريضة عبادية أو حقيقة كونية أو تشريع أخلاقي وسلوكي بصورة كلية أي حصر جميع المواضع التي وردت عنها في القرآن كله لاتضح لنا المقصود الإلهي المتكامل عن كل منها.

 فمثلا حين يقرر القرآن المنزل من رب العالمين أنه سبحانه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء ؛ ثم نجد آيات أخرى يوحي ظاهرها بأن له سبحانه يدا أو عينا " يد الله فوق أيديهم " ؛ " ولتصنع على عيني " فسوف ندرك أن هذه الآيات تستخدم المجاز والبيان الذي تستخدمه اللغة فيمكن تأويل اليد بالقدرة والعين بالرعاية والعناية .

 وبتطبيق المنهج الكلي على كل ما قيل عن نسخ آيات لآيات سبقتها أو تغيير أحكام تشريعية لتوصلنا إلى الحقيقة المنطقية المؤكدة التي توضح أن كل آيات القرآن الكريم محكمة لا ينسخ بعضها بعضا ؛ وإنما لكل منها مجال وظروف لتطبيقها أو تحريمها وسوف تظهر هذه الحقيقة بالدراسة الشاملة للنص القرآني المنزل كوحدة كلية متكاملة فمثلا الأمر بقتل المشركين المحاربين والغلظة معهم لا يتناقض ولا ينسخ الأمر بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة أو بيان أنه لا إكراه في الدين فالمحارب المعتدي ينبغي رد عدوانه بالقوة والغلظة .

 والمسالم المخالف في الاعتقاد أو الدين أو المذهب لا يكره على تغيير عقيدته أو دينه أو مذهبه إنما يدعي إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ؛ وما سبق مجرد أمثلة للمنهج الكلي الذي ينتج عن استخدامه بصورة علمية ومنهجية إلغاء ما سطره أصحاب القول بالنسخ وتغيير الأحكام وقد قام الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله شيخ الجامع الأزهر 1958/1962 بإتباع هذا المنهج في تفسيره المكون من ثلاثة مجلدات تحت عنوان " تفسير القرآن الكريم " بصورة تجمع المنهجين الكلي والجزئي بصورة ميسرة بحيث خصص عشرة أجزاء لكل مجلد وربط في تفسيره كل حكم وقضية بما جاء عنها في كل سور القرآن غير مقتصر على الآية التي يفسرها.

 وكان يستخدم التفسير الكلي لكل سورة وبيان ما ورد فيها من أحكام وقضايا وتشريعات وأوامر ونواه بصورة كلية ثم يربط كل ذلك بما ورد عن هذه الأحكام والقضايا في كل سور القرآن ؛ وقد أدت ترجمة كتبه ومنها هذا التفسير إلى مختلف اللغات إلى اعتناق مئات الآلاف من الأوربيين والأمريكيين للإسلام في السنوات العشر التي انتشرت فيها هذه الترجمات من 1955/1965 إما تطبيق المنهج الكلي على مرويات الحديث والسنة الفعلية فسيكون له نتائج حاسمة في إزالة التناقض الشائع في هذه المرويات التي اعتمدت على قاعدة الإسناد .

 فنرى الكثير من الأحاديث التي يصح إسنادها يناقض بعضها بعضا ؛ مما يسبب اختلاف الفقهاء في الأحكام وتضاربها بسبب الأخذ بأحاديث صح سندها وتناقض متنها ، فمن خلال المنهج الكلي يتم التوصل إما إلى حل التناقض أو ترك أحد النقيضين على أساس من الوعي بالمقاصد العليا للشريعة والانحياز لها عند حتمية الاختيار.

 والمنهج الكلي عند ارتباطه عضويا بمقاصد الشريعة سيكون منهجا مساعدا على التمييز في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلوكياته واختياراته بين ما هو وحي إلهي وتشريع سماوي وبين ما هو سلوك بشري يرتبط بأحوال زمانه وضرورات مكانه وعادات مجتمعة التي تتغير بتغير الزمان والمكان وتطور المجتمع دون أن تمس عقيدة أو عبادة أو سلوكا أو خلقا يرتبط بمقاصد الشريعة. 

وتطبيق المنهج الكلي على اجتهادات الفقهاء سوف يعطينا صورة شاملة متكاملة عن اجتهادات وآراء الأئمة والفقهاء في مختلف فروع الفقه مما يوسع أمامنا دائرة الاختيار من الأحكام المتعددة والمتنوعة والآراء المختلفة ما يناسب العصر ومصالح المجتمع ؛ ويعتبر الأستاذ الدكتور/ سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر أحد رواد هذا المنهج الذي يستعرض الآراء الفقهية المختلفة في أمر ما ويترك للمسلم الاختيار منها بما يفتيه به قلبه وترتاح إليه نفسه ؛ وهو هنا يدرب الفكر على قدرات المقارنة بين الأحكام الفقهية والاختيار منها مما يكون رأيا عاما يقبل الاختلاف ويتقبل الآخر فيضع اللبنة الأولى لمجتمع يحترم حرية العقيدة وينبذ التعصب والعنصرية والتمييز ؛ ويؤدي بالضرورة لتجفيف منابع فكر الإرهاب الذي يبني وجوده على رفض وتكفير الآخر.

ويصل تطبيق المنهج الكلي إلى أعلى مستوياته حين تتولاه مجموعة من العلماء ذوي العقول المستنيرة في مختلف التخصصات بالتطبيق أعلى النص الديني بمصادره الثلاث: " القرآن – السنة – الاجتهاد " كوحدة متكاملة في ضوء مبادئ العقيدة ومقاصد الشريعة وروح العصر وضرورات المجتمع والمصالح السائرة ومكارم الأخلاق من خلال قراءة شاملة للنص الديني تؤدي إلى فهم واسع المدى لا يتوقف عند المعاني المبتورة التي تفصل النص من سياقه وتخرجه عن مقاصده وتحصره في مفهوم ضيق لا يرتبط ببقية النصوص قبله أو بعده .

 وتطبيق المنهج الكلي في هذا المستوى سوف يصل بنا ضرورة إلى تنقية التراث مما شابه من تناقض ؛ وأقكار متشددة ، وتطرف في الفهم والفكر ؛ وسوف يعطي الحجة البينة والدليل العقلي والنقلي لتطهير التراث من مفاهيم أساءت لعظمة الإسلام زمنا ليس بالقصير ؛ ومن خرافات وأساطير تناقض العلم والعقل ؛ ومن قراءات قاصرة للنص الديني ينطبق عليها المثل السائر المعروف عمن يقرءون : لا تقربوا الصلاة أو: ويل للمصليين دون إكمال الآية الكريمة.