الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مع الـ نجيبين محفوظ "٢"


رحلة طويلة عاشها أمير الرواية العربية نجيب محفوظ، أكثر ما ميزها هو ذلك النظام الذي ألزم نفسه به، وأول ملاحظة نراها مؤثرة كثيرا في وصول نجيب محفوظ لما وصل إليه هو تحديده للطريق التي سوف يسير فيها، فبعد أن التحق بجامعة القاهرة في العام 1930 وحصل على ليسانس الفلسفة، شرع بعدها في إعداد رسالة الماجستير عن الجمال في الفلسفة الإسلامية ثم غير رأيه وقرر التركيز على الأدب. ذلك التركيز الذي جعله يمنح الأدب كل اهتمامه.
 
إن البراعة في الأدب لا تأتي فقط من امتلاك أدوات الكتابة، بل تعني القراءة الدقيقة للواقع في كل مكوناته: السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والفنية، تعني امتلاك الأديب لرؤية كاملة عن العصر الذي يعيشه، وعن تاريخ الأمة التي نشأ فيها، ودراية كبيرة بالثقافة المحلية والعالمية، تعني أن يكون مرآة لتلك الحياة، وما يتفاعل فيها من عوامل، يدرس واقع بيئته، ويستشرف مستقبلها، ليصبح ضميرها، ويكون جرس الإنذار، محذرا مما يعتري المجتمع من أمراض، ذلك التحذير الذي لا يسلك فيه الأديب سلوك الواعظ، الذي يمل منه الناس وتعرض عنه النفس، بل يُعْمِل العقول التي بدورها تتفتح عن علاج للمشكلات، وتقترح حلولا للأزمات. 

كان ومازال هناك معضلة تواجه الأديب في مصر؛ حيث إن الأدب ليس بوظيفة، ولا يمكن لموهبة – فذة كانت أو دونها – أن تتفرغ للأدب ليكون مصدر رزق لها، خاصة في البداية الأولى التي يكون فيها الأديب أحوج ما يكون لمصدر رزق يكفيه لمطالب الحد الأدنى من الحياة، في ذات الوقت الذي يبحث فيه على وسيلة لنشر إنتاجه، ذلك ما دفع نجيب محفوظ إلى العمل في الحكومة فعمل سكرتيرًا برلمانيًا في وزارة الأوقاف (1938 - 1945)، ثم مديرًا لمؤسسة القرض الحسن في الوزارة حتى 1954. وعمل بعدها مديرًا لمكتب وزير الإرشاد، ثم انتقل إلى وزارة الثقافة مديرًا للرقابة على المصنفات الفنية. وفي 1960 عمل مديرًا عامًا لمؤسسة دعم السينما، ثم مستشارًا للمؤسسة العامة للسينما والإذاعة والتلفزيون. آخر منصبٍ حكومي شغله كان رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للسينما (1966 - 1971)، وتقاعد بعده ليصبح أحد كتاب مؤسسة الأهرام. 

وهكذا صبغت حياة نجيب محفوظ بالصبغة الوظيفية التي كانت ضمن نظام حياته الصارم، ذلك النظام الذي أخضع نجيب محفوظ نفسه له في كل حياته فلقد قيل عنه: «كان نجيب محفوظ شخصية منظّمة للغاية، وفي كلّ شيء، حتى في الكتابة الإبداعية. فهو يكتب في وقت معيّن، ويقرأ في وقت معيّن. لكن هذا لا يعني أن الإبداع لديه كأفكار، كان يخضع لنظام معيّن. فالأفكار والمتخيّلات الإبداعية هي دائمًا خصوصية، جوّانية، يحمل الكاتب فوران أسئلتها ودواعيها في جميع حالاته: وهو على الطريق، أو في العمل، أو في أوقات النزهة والطعام والراحة، وحتى في النوم والاستيقاظ.. وهكذا فحال الإبداع المحفوظيّة هنا لا تخضع لنظام معيّن، وإنما الذي يخضع للنظام هنا هو لحظة بدء عملية تسجيل الكتابة أو صبّها في سرد روائي أو قصصي».

بدأ نجيب محفوظ الكتابة في منتصف الثلاثينيات، وكان ينشر قصصه القصيرة في مجلة الرسالة. في 1939، نشر روايته الأولى عبث الأقدار التي تقدم مفهومه عن الواقعية التاريخية. ثم نشر كفاح طيبة ورادوبيس منهيًا ثلاثية تاريخية في زمن الفراعنة. وبدءًا من 1945 بدأ نجيب محفوظ خطه الروائي الواقعي الذي حافظ عليه في معظم مسيرته الأدبية برواية القاهرة الجديدة، ثم خان الخليلي وزقاق المدق. جرب نجيب محفوظ الواقعية النفسية في رواية السراب، ثم عاد إلى الواقعية الاجتماعية مع بداية ونهاية وثلاثية القاهرة. فيما بعد اتجه محفوظ إلى الرمزية في رواياته الشحاذ، وأولاد حارتنا التي سببت ردود فعلٍ قوية وكانت سببًا في التحريض على محاولة اغتياله. كما اتجه في مرحلة متقدمة من مشواره الأدبي إلى مفاهيم جديدة كالكتابة على حدود الفنتازيا كما في روايته (الحرافيش، ليالي ألف ليلة) وكتابة البوح الصوفي والأحلام كما في عمليه (أصداء السيرة الذاتية، أحلام فترة النقاهة) واللذان اتسما بالتكثيف الشعري وتفجير اللغة والعالم، وتعتبر مؤلّفات محفوظ من ناحية بمثابة مرآة للحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبارها تدوينًا معاصرًا لهم الوجود الإنساني ووضعية الإنسان في عالم يبدو وكأنه هجر الله أو هجره الله، كما أنها تعكس رؤية المثقّفين على اختلاف ميولهم إلى السلطة.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط