الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مدينة النور تحت الظلام !!


قطعَ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قرابة 6500 ميل من باريس إلى العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس، وأصر على المشاركة في قمة دول العشرين رغم كل ما يدور في بلاده، ليكشف أمام زعماء العالم حقيقة ما يجري، ويبعث رسالة طمأنة بأن الأوضاع في فرنسا مازالت تحت السيطرة. 

خلال كلمته أمام قادة مجموعة العشرين السبت الماضي، التي استغرقت نحو 33 دقيقة، تحدث ماكرون، واستمع له القادة الكبار بإنصات، فالكلُ قلقٌ بشأن أحداث الفوضى في باريس، والجميعُ يدركُ أن الفوضى مرضٌ معدٍ، لا توقفه المنافذ الحدودية، بل ينتشرُ في الهواء، ويتسلل عبر مسام الجلد، وماكرون الذي بدا جادُ الملامح، هادئ النبرة، أشار بعباراته القاطعة ولغة جسده الواثقة، إلى التمسك بالحسم في مواجهة الفوضى، فدعاة العنف على حد قوله "يريدون الفوضى وليس التغيير" و"يستغلون الموقف لخدمة مصالحهم"، محذرًا: "سيتم تحديد هوياتهم ومحاسبتهم أمام القضاء".

لولا ظاهرة أصحاب "السترات الصفراء" التي تُصاحب أحداث العنف بباريس الآن، كان بوسعي أن أتقبل فكرة أن يثورَ الشعبُ الفرنسي مناهضةً لقرار زيادة سعر الوقود.. فهو شعبٌ ثائرٌ متمردٌ بطبعه، جاهز للاشتعال في أية لحظة، ولعل محطاتٌ عديدة في التاريخ الفرنسي تشي بذلك، بداية من عام 1732 حيث انتفاضة الجمهوريين ضد الملكية، التي بلغت أوجها باندلاع الثورة الفرنسية الدامية في عام 1789 لتستمر حتى اعلان الجمهورية الفرنسية الأولى 1792، وكذلك الإضراب العمالي والطلابي الأكبر في تاريخ فرنسا عام 1968، الذي انتهى بحل الجمعية الوطنية وعقد انتخابات برلمانية جديدة، وكذا موجات العنف التي اجتاحت فرنسا أعوام 2005 و2007، نتيجة ممارسات قمع من جانب الشرطة الفرنسية، أدت في عام 2005 إلى اعلان حالة الطوارئ في فرنسا.

إن "السترات الصفراء" تُضئ في عقلي ألف جرس إنذار، فهي تعكسُ نوعًا من التنظيم الخفي لهذه الفوضى، وتشير إلى أن هناك من يحرك الحشود كعرائس الماريونت، ولعل ذلك يُذكرنا بمصطلح الفوضى الخلاقة Creative Chaos الذي صاغه باحث السياسة الأمريكي دان براون، وأعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في عام 2005.. فأحدهم استثمر الشرارة الأولى لهذه التظاهرات لدفع تلك الحشود إلى الشوارع والميادين، ثم رسم نقاط التجمع لها، ومسارات التحرك، بل ويمنحها هوية مميزة، هي "السترة الصفراء"، التي تجعل من أصحابها أهدافًا واضحة للشرطة الفرنسية، وكأنهم يقولون لها: ها نحن ذا.. اضربونا.. واسحلونا.. ووراءنا كاميرات تنقل وتبث، وكلُ ذلك يضعُ فوق النار وقودًا، ويجعل الحشد حشودًا.. ووسط الحشود يختبئ العتاه واللصوص، لتغدو الفوضى دوامة تبتلع وطنًا بأكمله.. السيناريو مكرر وممل، ولعل شعوب الربيع العربي تحفظه. 

ظاهرة أخرى ترتبطُ بتظاهرات باريس الأخيرة، تجعلُ من الصعب تقبل فكرة أن تحرك الجماهير مبعثه الوحيد زيادة سعر الوقود، وهي انضمام أعداد من المهاجرين العرب لها، والذين كانت تلتصق بهم دومًا تهم اثارة الشغب في موجات العنف التي تعرضت لها فرنسا خلال عقود سابقة، ولعلهم بهذا يقدمون للدولة الفرنسية ذريعة مناسبة لاتخاذ إجراءات تعسفية تجاه المهاجرين عقب انقضاء الأزمة الراهنة، تزيد أوضاعهم سوءًا، وربما تشاركها في ذلك دولٌ أوروبية أخرى، ومن الحكمة أن يقوم ممثلو الجاليات العربية والإسلامية تحديدًا بدورٍ مسئول في الوقوف في خندق واحد إلى جانب فرنسا في مواجهتها لفصائل العنف، والتأكيد على رفضهم لمثل هذه الأحداث، والتبرؤ من مرتكبيها.

دخلت فرنسا دائرة فوضى، لا يعلمُ إلا الله كيف ومتى يمكنها الخروج منها ثانية.. فمدينة النور باتت تحت الظلام.. ووتيرة العنف تتصاعد.. وشوارع الحب في باريس تحولت إلى ساحة حرب.. وأعياد الميلاد المرتقبة تبدو بلا طعم، والعالمُ كعادته يراقب ويترقب.. أليس في فرنسا عاقلٌ رشيد ؟
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط