الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لمن نشكو مآسينا


قناعاتي أنه لا يوجد إنسان –طال عمره أو قصر- لا يحمل بداخله قصة أو حكاية، قصة قد يعرفها من حوله أو يكتفي هو بها لنفسه، قصة فيها ما اختلط بالأسى والفرح، فيها من واقع الحياة مرارتها وحلاوتها.

على المستوى الشخصي أهتم بقصص البشر، اسمعها منهم بإنصات، لا أسأل عن شكل المكان ولا الوقت، عقلي يتولى المهمة، ترتفع الأبنية وتتسع المساحات ومعها أجواء حُمرة يحجُب فيها الضباب الشمس فأستعد، أحيانًا تنساب كلمات أحدهم وأحيان أخرى تتحشرج وفي الحالتين أصمت وأستمع دون أسئلة.

تأسرني وجوهه البشر، عيونهم في أي اتجاه تنظر وكيف تخرج الكلمات من أفواههم، حركات اليدين وما ترسمه، تقسيمة الأصابع، استطالتها وأقطارها، أشعر بهؤلاء، بما يرغبون قوله وبما يمتلكون من مخزون قصصي.

دعني أقول لك شيئا، الخارجون على القانون والمصابون باضطرابات نفسية فئتان لهم تاريخ قصصي لا ينتهي، القاسم المشترك بينهما أن شيء ما دفعهما إلى خط البداية، وتولى المجتمع باقي المهمة فالأول لا يستحق الحياة والثاني مجنون –هكذا يراهم معظمنا- وفي المنتصف بين مرحلة التحول وحتى اكتماله يعيش أبناء الفئتين أحداثا موحشة، فتطغى أولاهم وعن العالم تنفصل أخراهم.

كلما أتيحت لك الفرصة للقاء واحد من هاتين الفئتين، استمع بتركيز، ربما لم يجد أحدهم من يسمع منه قبل أن يصبح ما هو عليه، ربما كان يحتاج إلى كلمة واحدة تعيده إلى العالم من جديد ولم يجدها، ربما انصاتك لتفهم أسبابه قد يعيد إليه ولو جزء من آماله في حياة دفنها أمام الجميع. 

أذكر رجل في الخمسين من عمره، عرفته بالصدفة ، قصته دراماتيكية قاسية، دخل السجن في قضية لم يكن مذنبًا فيها، ضاع من شبابه 10 سنوات، خرج وعمره 34 عامًا، خرج ناقمًا على المجتمع بكل ما فيه بشر وحجر، امتهن الإجرام وذاع صيته في المنطقة التي يعيش بها، فعل كل شيء، لم يردعه صراخ أو توسلات، كان يفعل بعنف وكأن غشًاء أسود أحاط بقلبه.

سنوات عديدة وهو يُرهب، ويأخذ بقوة السلاح وأحيانًا يقتل إذا لزم الأمر، سنوات عديدة وهو ينتقم من المجتمع، سنوات عديدة لحقت بتلك التي ضاعت في "السجن ظلم"، فجأة تبدلت حياته، كان ضيفا على "سامر" يجتمع به رجال من أعمار مختلفة تأثر بكلام بعضهم، أسابيع يفكر ويُمعن ويتساءل : "طب وآخرتها ؟؟" وإيه ذنب الناس يتظلموا زي ما أنا اتظلمت ؟؟ أوقف الرجل نشاطه الإجرامي تمامًا وتوارى عن عيون البشر وراح يحلم ببيت وزوجة وأبناء وحياة.

مرت الأيام سريعًا وهو يحلم كان كلما يجلس مع أحد يقول : "أنا نفسي أرجع أعيش بني آدم طبيعي زيي زي باقي الناس أنا كاره اللي كنت بعمله وظلمت ناس كتير وفي النهاية اكتشتفت إني كنت بنتقم من نفسي قبل الناس" ، كلماته كانت صادقة ، تشُم رائحتها ، ولكن ماذا سيفعل في محاضر وقضايا أوراقها تزنه مرتين ؟؟ كان هذا السؤال وإجابته يُبكيانه، لأن الإجابة تعني عودته إلى السجن من جديد أو يظل مُطاردًا مدى حياته.

الأسئلة والإجابات لم تُثن صاحبنا هذا عن قراره بمقاطعة الإجرام، بل كانت تزداد آماله فيما يتمناه مع كل طلعة شمس، ثقة غريبة بأنه سيحقق ما يحلُم به، وفي ليلة من الليالي حاصرت الشرطة مخبأه بعد أن وشى به أحدهم ودل على مكانه، أُحكم الحصار عليه فلم يعد ثمة منفذ للهروب.

لم يستسلم، لم يُقاوم ولم ينطق بكلمة واحدة –بحسب من كانوا معه- ، بكل هدوء أخرج مسدسا من تحت فرشته وأطلق الرصاص تجاه رأسه، مات وماتت معه أحلامه، لكن بقيت قصته على ألسنة الكثيرين ممن عرفوه وممن سمعوا عنه نسوا ماضيه وكان الحاضر دائمًا أنه "تاب" وكان يحلم ببيت وزوجة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط