الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

التجارب السريرية على البشر


يأتي هذا المقال في وقت تعكف فيه لجنة الصحة بمجلس النواب المصري على إعادة النظر في مشروع قانون البحوث الطبية الاكلينيكية المعروف إعلاميا بـ "البحوث السريرية".. وكان المجلس قد وافق على القانون بتاريخ 13/5/2018، لكن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي بحكمته وعبقريته قد رفضه، فأعيد إلى المجلس مرة أخرى.

التجارب على البشر موضوع شائك وجديد على المجتمع المصري، ما يتطلب التأني والحذر قبل إصدار أي تشريعات فيه، خصوصا وأن الدولة ما زالت تعاني من مشكلة قريبة الصلة وهي تجارة الأعضاء..
صعوبة الموضوع تتمثل في ردم الهوة بين من يخافون من تحويل البشر إلى "فئران تجارب" وضحايا لصالح شركات الأدوية وأصحاب رأس المال، وبين من يرونه قفزة علمية ذات مردود اقتصادي كبير. 

استخدام البشر في الأبحاث الطبية مشكلة قديمة وضحاياها لا حصر لهم، ومن المفيد عرض أمثلة منها للعبرة.. من كتاب "الطبيب وكشف الجريمة" لكاتب المقال، نقتبس ما يلي: 

خلال الحرب العالمية الثانية حدثت تجارب على الأسرى في معسكرات الاعتقال النازية لاختبار تأثير الأسلحة الكيمائية والبيولوجية عليهم، والتي اعتبرت لاحقا جرائم حرب، وصدرت بحقها اتفاقية جنيف عام 1948 التي "تحظر إجراء التجارب على أبناء البلاد المحتلة والأسرى".. لم تنته المشكلة عند هذا الحد، وثبت بعدها استخدام البشر في التجارب في أوقات السلم من قبل مخابرات وشركات خاصة تهدف إلى الربح، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في عام 1966 بأنه "لا يجوز إخضاع أي فرد دون رضاه للتجارب الطبية"، وتضمن الدستور المصري لعام 1971 هذه الفقرة. ومع ذلك استمرت التجارب على البشر بشكل سري في أكثر من دولة، وبات واضحا أن المعاهدات والقرارت الدولية لا تحترم.

ضحايا هذه التجارب غالبا يكونون من السجناء والفقراء.. على مدى ثلاث سنوات ما بين 1946-1948 أجرت أمريكا تجارب سرية على سجناء في جواتيمالا بحقنهم عمدا بميكروب الزهري لإصابتهم بالمرض واختبار فعالية دواء البنسلين عليهم.. بعد 60 عاما من التعتيم، انفضح الأمر واعتذرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عام 2010 لحكومة وشعب جواتيمالا عن هذا العمل الإجرامي.

في عام 1975 أصدرت الجمعية الطبية العالمية توضيحا يفرق بين التجارب العلاجية وغير العلاجية.. التجارب العلاجية هي حق الطبيب في تجريب وسائل العلاج وبدائل الأدوية المتاحة له وتحت مظلة قوانين سلامة الدواء، وهذا النوع من الأبحاث قانوني مستمر ولم يتوقف، وينجز في مصر تقريبا 17 ألف بحث طبي كل عام، لكن للأسف فإن موقع مصر المتراجع إلى 105 من أصل 127 ضمن مؤشر الابتكار العالمي ليس سببه قلة الأبحاث، بل لضعف تنافسيتها عالميا وإجرائها "برتوكوليا" لغرض الترقيات فقط وليس ضمن برنامج قومي مرسوم، ولا دخل لغياب التجارب السريرية في تصنيفنا الدولي كما يدعي البعض.

أما التجارب غير العلاجية فهي التي تجرى على بشر أصحاء لفائدة التقدم العلمي والبشرية، وليس للمتطوع فائدة شخصية منها، ولكن بشروط أهمها الموافقة الحرة المستنيرة للمتطوع، وأن يكون بصحة جيدة، وعلى القائمين بالتجربة حماية حياته من أية مخاطر أثناء وبعد التجربة.. 

وافقت كل الدول على شرعية التجارب العلاجية، لكن اختلفت حول التجارب غير العلاجية حتى لو وافق الشخص على إجرائها، ومن بين هذه الدول فرنسا وبلجيكا، ولهم في ذلك وجهة نظر، فكيف يمكن إعطاء تطمينات للمتطوع على تجربة نتائجها غير معروفة أصلا؟.. وحتى الرأي الحر نفسه قد يكون مرفوضا مجتمعيا إذا تعارض مع الذوق العام، فتغيير الجنس مثلا يرفضه المجتمع والدين، حتى لو طلب صاحبه ذلك.

السؤال المهم هنا: ما هي حدود التجارب ومن يحمي الشخص حتى لو كانت برضاه؟ ماذا لو تمت تحت إغراء مالي أو ابتزاز أو انطوت على خداع، أو أجريت على شخص مسلوب الإرادة وخاضع لسلطة كسجين أو طفل أو معاق، وما قانونية الرأي الحر لفقير يحتاج إلى المال ليسد ديونه ويطعم أطفاله كما يحدث في بيع الكلى؟
وهناك من ذهب بعيدا وطالبت بتحريم كافة التجارب على الإنسان، وحتى على الحيوانات بحجة أنها مغلوبة على أمرها!

ونختم بتحديد العناصر الأربعة للمشكلة وهي: مصلحة المريض، حاجة الطب إلى التقدم، حرية الطبيب في البحث العلمي ، وأخيرا سيطرة رأس المال.. أخذ كل هذه العناصر في الحسبان يتطلب سلة متكاملة ومتوازنة من القوانين تراعي قدسية النفس البشرية وواقع الإنسان المصري.

في اعتقادنا، سيكون الحال أفضل لو تشكلت هيئة وطنية لأخلاقيات البحوث الطبية الاكلينيكية، تضم نخبة من علماء الطب وخبراء القانون وتحت إشراف الدولة، تلتزم بنصوص شفافة معلنة ومعايير دولية واضحة وألا يكون الربح هدفها الرئيسي، عسى أن تكون أكثر إحكاما وسيطرة على هذا النوع من الأبحاث، حتى لا نفاجأ بمشهد فوضوي آخر بعد الذي رأيناه في تجارة الأعضاء.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط