الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مليكة


بدأت بالقراءة لأعرف من هي مليكة! ذلك الاسم الذي تردد بكثرة خلال الأسبوع المنصرم، وما أن بدأت المطالعة وأتممت بضع صفحات من "سي في" حياتها، حتى عجزت عن الاستمرار، فعيني توقفت عند كثير من الجمل المدونة في كتاب حياتها، لألاحظ في الهامش فقرة اعتراضية تقول إنها بدأت حياتها بـ [صرخة] الولادة، وانتهت حياتها بـ [صرخة] ألم.

كان يوم الأربعاء المنصرم وتحديدا في صباحه، استيقظت مبكرا عائلة "مليكة" المكونة من 4 أفراد، استعدادا لرحيل الكل! -كل إلى عمله- مليكة وأخوها إلى المدرسة، وأمها وأبوها إلى عملهما، "أحمد الأب" سارع بكي تي شيرت وجيبة الابنة، و"الأم" في مطبخها تجهز اللانش بوكس المدرسي، ودقائق معدودات والكل انصرف على أمل التلاقي بعد الظهر كما المعتاد.

ولكن القدر والإهمال انتقص من الأربعة واحدا -لم يعد موجودا- الكل التقي بعد الظهر بجسده وروحه [إلا مليكة] جثمان فقط بلا روح، الثلاثة يتحركون [إلا مليكة] ساكنة، مليكة ارتدت القماش الأبيض معلنة الرحيل، والثلاثة تدثروا باللباس الأسود معلنين القصاص، الثلاثة يسكنون دار الباطل إلا مليكة في دار الحق.

فمع دقات ساعة عودتها من مدرستها، دقت ساعة رحيل مليكة من الدنيا الفانية، ولم يبق لأبيها ولا أمها سوى [ذكريات] من صور وفيديوهات و[مذكرات] بخط يدها على ورق الحائط وكراريس وكتب مدرستها.

كانت "مليكة" عجينة البسكويت والجلاش التي تلتهما أسرتها صباحا ومساء، والمُقطرة بعسل ضحكتها ومرح روحها وحلاوة مداعبتها ومشاغبتها، إلا أن ديريكسيون وأربع عجلات يقودها سائق أرعن وتجلس بجواره مشرفات –ضميرهن في إجازة- باص مدرستها، قتلوها بآلة الإهما ، وخلّصوا عليها بدهسها تحت الكاوتشات، حتى خرج مخها من رأسها، وطمست ملامحها بتهشم عظام وجهها.

"مليكة" بعد أن انتبه سائق السيارة أنه صدمها بوش الأوتوبيس برعونة تحركه قبل أن تعدي من أمامه لتنتقل للجانب الآخر، ومن قبله مشرفات الباص الذين لم يكلفوا خاطرهن النزول مع مليكة لتوصيلها إلى بر الأمان، ولأن ضمائرهم وقلوبهم ما هي إلا ديكورات معلقة على صدورهم، قاموا بالذهاب بمليكة وما زالت فيها الروح إلى المدرسة أولا لغسل عجلات الباص من دمها لطمس الحقيقة، ثم ذهبوا بها إلى المستشفى التي لم تسعفها فقد خرجت الروح إلى بارئها.

التقت أم مليكة بمشرفات الباص في طرقة العمليات بالمستشفى، بعد أن أخبرها ابنها الذي كان موجودا في نفس الباص بأن أخته دهسها باص المدرسة وقال لها حرفيا "أنا شوفت مخها خارج من رأسها" وسألت الأم المفجوعة المشرفات عن بنتها، فكان ردههن "إحنا أنقذنا بنتك يا مدام.. بنتك اتكعبلت على الأرض وارتطمت رأسها بالأسفلت".

أم مليكة انحنت برأسها وجسدها تبوس أيدي وأرجل المشرفات الذين أنقذوا ابنتها –وهن في الحقيقة من أعدموا ابنتها وحياتها- حتى جاء خبر الوفاة من غرفة العمليات، صدمة الخبر أصابت الأم بالخرس، وألمّ البكاء بالأب، بينما المشرفات تحاولن التمثيل بأنهن حاولن انقاذها قائلين: "ولكن إرادة الله فوق كل شيء"، وهم يعرفون أن ألسنتهن نطقت بالكذب والتزوير والخداع.

لم تدم مسرحية الكذب طويلا فجهاز كشف كذبهم وهي كاميرات المراقبة الموجودة في الشارع رصدت الواقعة من أولها لآخرها، وأشارت بأصابع الإهمال وانعدام ضمير السائق والمشرفات إلى النيابة التي تباشر التحقيقات معهم.

ربما تقديمي وتقديم وزير التربية والتعليم العزاء لأسرتها لم يقدم شيئا، بل سننضم لسيول التعازي والمواساة التي تلقوها من كل صوب وحدب، فليس بعد قتل الضنى شيء، وليس بعد الإهمال كفر.

ولكن حادث مليكة يحتاج إلى إلقاء نظرة من الوزير طارق شوقي، فرحلة الباص المدرسي مليئة بالمتاعب والمخاطر بسبب باصات عفى عليها الزمن وعدم التزام المدارس بشروط حفظ سلامة الطلاب وأمنهم وسائقون غير مؤهلين يخاطرون يوميًا بحياة الأطفال.

فهل تتدخل لكي لا نرى مليكة أخرى؟!
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط