الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

مصر والنمسا .. حضارة الشعوب التاريخية


هناك فرق بين الحضارة والتكنولوجيا، فالأخيرة تطبيق للعلوم لحلّ المُشكلات التي يواجهها الإنسان، أما الأولى فهي نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي وهي مجموعة القيم التي تميز شعبا من الشعوب، تلك التي كلما كانت إنسانية، كلما عكست رقيا واضحا لهذه الأمة أو تلك، وهي ذاتها التي تنظم شعبا من الشعوب في عقد الحضارة، وذلك بما يسهم فيه بسهم إنساني.

إن السلوك الذي ينتهجه شعب من الشعوب يعكس حضارة هذا الشعب، كما يعكس قيمَهُ الإنسانية، فمن سلوك أفراد المجتمع نعلم مدى رقي الشعب من عدمه، كما نتعرف إلى أي مدى في سلم القيم الإنسانية قد ارتقى.

وللشعوب ميراث يؤثر تأثيرا مباشرا على هذا السلوك، بل على منظومة قيمها، وقد تمر الشعوب بظروف تاريخية، تتواري فيها منظومة القيم الخاصة بها، تلك التي تجعل الأمة منبَتَّة عن جذرها الأصيل، ذلك الذي يستدعي توافر كل الطاقات الخلاقة لإعادة هذا الشعب إلى طريق أجداده التي نشرت من خلالها القيم الإنسانية للعالم، ذلك الذي مصر في حاجة إليه.

إن الشعب المصري هو أعرق شعب على هذا الكوكب، وساهم بالسهم الأول في كافة المجالات الإنسانية، وتبع هذا السهم الأول بأسْهم كثيرة متنوعة، حفظ لنا العالم الفضل فيها، وأشارت البشرية جمعاء بما منحه الإنسان المصري عبر التاريخ.

وما من بد في أن تدول الأيام دولها، فيصاب شعب من الشعوب ويعتل، وهذا الاعتلال يكون أقسى ما يكون إذا طال مجموعة القيم، ذلك الحادث في مجتمعنا المصري في الآونة الأخيرة، وهو المنعكس على الشارع المصري ابتداء من النظافة مرورا بقيمة العمل، وصولا إلى مكانة الوطن في النفوس.

إن قناعتي – شأني شأن كل المؤمنين بأصالة معدن شعبنا النفيس – لا تتبدد في قدرة شعبنا من خلال موروثه الحضاري الهائل في العودة إلى ما كان عليه في أيام وعصور ازدهار كثيرة خلت، ذلك الذي في حاجة إلى عمل دؤوب على كافة المستويات، يشارك فيه كافة مؤسسات الدولة من ناحية، وكل المثقفين من ناحية أخرى، وكل المعنيين بمنظومة التربية من ناحية ثالثة، وكل الساعين لرفعة مصر من ناحية رابعة، وكل هؤلاء المؤمنين بضرورة عودة مصر مشعل تنوير من ناحية خامسة.
 
من الشعوب الراقية الشعب النمساوي الذي يحالفني الحظ لأعيش بينه ما يقرب من ربع قرن، والذي تنظمه مجموعة قيمِه في عقد اللؤلؤ النادر للحضارة الإنسانية، والذي أتمنى أن أرى شعبنا في القريب العاجل- وهو أهل لذلك - يسلك ذلك السلوك الراقي للشعب النمساوي الذي مازال حتى اللحظة تنتابني الدهشة النابعة من عمق الإعجاب من سلوكه الراقي، وأتساءل كثيرا كيف استطاع هذا الشعب أن يصدر فعله الأول عن تنظيم وخير! وأظن أنهما متلازمان، فما من تنظيم إلا وأتى بخير.

أول مرة انتابتني الدهشة، بالتحديد في بدايات ربيع العام خمس وتسعين من القرن الماضي، حينما ذابت الثلوج وأخذ الماء يجري في جدول صغير أقرب في حجمه للبحر الصغير الذي يشق مدينتي الجمالية بمحافظة الدقهلية، التي جئت منها، حينئذ شاهدت رجالا ونساء يقفون على جسر ذلك الجدول الصغير ليلقوا ببقايا الطعام - " المخبوزات " بعد أن يقومون بتقطيعها قطعا صغيرة - في ذلك المجرى المائي، لفت انتباهي ذلك التصرف، وتعجبت له، وكان لابد أن استفسر، فإذا بهم يطعمون أسماك ذلك المجرى المائي الصغير والممنوع صيدها، وكأني بهذه الأسماك نتيجة للعشرة والألفة الكبيرة بينها وبين المواطنين، ترد لهم التحية بنوع ما من الحركات.

ظننت أن هؤلاء الرجال والنساء الذين يقومون بذلك هم من هؤلاء الذين يمكن أن يطلق عليهم الطبقة الأرستقراطية حيث أن لهذه الطبقة بعضا من السلوك الذي يطلق عليه في بلادنا " تقاليع فاضية "، ولكن لم يكن الأمر كذلك حيث أن كثيرا من البسطاء والذين لا يملكون إلا قوت يومهم - ذلك الذي تضمنه لهم في الحد الأدنى الدولة من خلال الضمان الاجتماعي - فالأمر ليس إذن لا " تقاليع فاضية" ولا مقتصرا على طبقة مرفهة من أبناء الدولة، ونفس الشيء وجدته في الحقول والجبال مع الطيور المختلفة، فتجد الكثير من النمساويين يشيدون أقفاصا للعصافير ويقومون بوضع الحبوب والمياه في هذه الاقفاص، ليأكل ويشرب منها الطير، الذي لا يقومون أيضا بصيده ضاربين مثلا للرحمة يستحق الوقوف أمامه طويلا.

وفي ناحية أخرى تقف أمامها مشدوها في ذلك الالتزام في سلوك النمساويين العام وحالة التنظيم المبهرة لكافة الأشياء والأعمال، في سلوك يصدر عن طبع، بكل تأكيد لم يحدث ذلك عفوا، ولم يتم هذا نتيجة لاختلاف في الجينات لدى هذا الشعب عن غيره من الشعوب، فلو اتخذنا الشارع مثلا لوجدنا تنظيما هائلا ابتداء من تصميمه في اتجاه واحد أو في الاتجاهين، حسبما قضت الحاجة مرة، والجغرافيا أخرى، تلك الجغرافية القاسية للغاية في بلد لا تجد فيه مساحة مستوية أو شبه، وإن كان ذلك من ناحية التصميم، فمن جانب آخر تجد السلوك الإنساني المنظم لحركة المرور هذه يدعوك للإعجاب والتعلم، فلن تجد رجل مرور يقف عند الإشارات الكهربائية إلا إذا أصابها لسبب أو لآخر عطب، فإنك واجد عربات الشرطة مسرعة لتنظم تلك الحال حتى يتم إصلاح ذلك العطل والذي يتم في أقصى أنواع السرعة، وعلى الرغم من الالتزام الشديد بالتعليمات الخاصة بالسير والقيادة، فإن ذلك لا يُتْرَك هكذا دون رقابة التي تتنوع ما بين الكاميرات المثبتة، والحركة الدائبة لسيارات الشرطة التي تطوف المدن والشوارع ليل نهار.

وفي جانب آخر غاية في الأهمية يعكس رقي هذا الشعب من ناحية، كما يعكس الوعي الكبير من ناحية أخرى، هذا الجانب يتمثل في التعامل مع القمامة تلك التي تخصص لها صناديق يرسم ويكتب على كل منها نوع " الزبالة " التي يُلْقَى بها، وهنا تجد حرصا مهولا من أبناء هذا الشعب في الالتزام بوضع كل نوع من هذه القمامة في الصندوق الخاص به، ذلك الذي يُهُيِّئ إعادة تصنيع تلك المخلفات ثانية، وهو ما يعود على البلاد بمردود اقتصادي، وهو ما يعكس الوعي الذي أشرت إليه آنفا.

تلك نماذج من سلوك تعكس ما وصل إليه بعض من الشعوب في العالم المتحضر، في السلوك والرقي، تلك الشعوب التي لا يقل عنها بحال شعبنا المصري العظيم، والذي لا يأتي بمثله.

والسؤال الجوهري هو كيف وصل هذا الشعب إلى مثل ذلك السلوك الذي يصدر عن طبع الآن وليس تطبع، لا شك أن كلمة السر في هذا كله هي التعليم والرقابة والتعود، إضافة لحس هذبه ذلك التعليم وضبطته الرقابة وأَصَّلَهُ التعود، يحس بعشق الجمال في كل شيء فيسعى للرقي، وهنا استطعت أن أفك شفرة مقولة الأستاذ عباس محمود العقاد: أعطني شعبا يحب الوردة أعطك شعبا متحضرا، فمن يحب الوردة حقا يكره القبح حقا، كما يبغض الهمجية، ويعشق الجمال، وهذا ما وجدته يمشي على قدمين، في ذلك الشعب العاشق للورود وللموسيقى والجمال.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط