الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الحكيم


تراه سبعينيا ؛ فى ملامحه وملابسه ؛ وبعد قليل ستراه سبعينيا فى أخلاقه وقناعاته .
تراه منتصرا بمبادئه وهو الخريج من طب قصر العينى سنة الهزيمة " 67 " .

تراه منحيا وهو القامة الشامخة بعلمه وكرامته وعطائه ؛ تراه فى تمام الثامنة صباحا سائرا من منزله حتى عيادته القريبة من مسجد السيد البدوى ؛ فهذا يريح الارواح التائهة وذلك يريح الاجساد المرهقة .

.. إنه الدكتور محمد مشالى ؛ الذى أقسم لوالده يوم حلف يمين تخرجه قبل اكثر من 50 عاما الا يغالى فى " الفيزيتا"؛ فكان بارا بوالده ومحافظا على قسمه بكشفه الذى بدأ بـ 10 قروش ولم يتجاوز حاليا الـ 10 جنيهات ؛ واضعا فلسفته الحياتية فى اننى " أتيت إلى تلك الدنيا لقضاء مهمة معينة، بعثني الله من أجلها، لم يشغلنى ملبس أو شكل، لم أفكر يومًا في ركوب سيارة فارهة، كل ما أريده هو أن أقضي مهمتي التي بعثني الله من أجلها بنجاح، وهي علاج الفقراء والرحمة بهم ؛ كان زمان الناس فقيرة أوي وأنا عشت وسط الأرياف، وكنت أحيانًا بآلاقي مرضى يموتوا بسبب عدم قدرتهم على الذهاب إلى طبيب أو شراء أدوية، وتعلمت أن بإمكاني أن أرحم هؤلاء" ؛ وهنا انتشر لقبه كما يناديه هؤلاء البسطاء وكما يعرف الحكيم فى تلك المناطق " بالحكيم " .

بمنطق الرحمة تلك يجلس هنا الدكتور مشالى بعيادته فى طنطا ؛ وسط جرائده القديمة ومعمله البدائى وكرسيه المتهالك و شزلونج عفا عليه الزمن ؛ ولكن لم يعفِ عليه الرحمة ..

أدواته الطبية تشبهه تماما فى صبره وتحمله وامانته ؛ فلم يغلق يوما بابه امام طفل مريض ؛ ولم تغلق عيادته يوما أمام متألم ؛ فهو وسكرتيره وأدواته الطبية وبونبونى الاطفال يجتمعون مساء كل ليلة لعلاج القاصدين بابه .

.. مبادئه لم يعف عليها الزمن بل ظل متمسكا بها عندما تخطاها الكثيرون ؛ وظل ملجأ لاطفال مدينته وقراها الفقيرة الباحثين عن الشفاء بجنيهات قليلة بعيدا عن الفيزيتات المرتفعة وظلت عيادته البسيطة محرابا للعلاج لمن أتعبهم المرض ولمن أشقاهم تردى الضمير . 

نشأ الطبيب الحكيم فى أسرة متوسطة الحال فتعاطف مع الفقراء والمساكين، وبدأ حياته من الصفر، مكافحا فى تربية أبنائه وأبناء شقيقه ؛ فاختار ان يكمل حياته وسطهم ؛ كإخصائى الباطنة والأطفال والحميات مهنيته الطبية فائقة ؛ وصيته الانسانى ذائع ؛ باحثا هنا وهناك عن فقير يعالجه او طفل يخفف من ألمه ؛ لا يحمل ساعة وبالرغم من ذلك مواعيده منضبطة اكثر من مواعيد قطارات السكة الحديد ؛ ولم يحمل هاتفا محمولا وبالرغم من هذا تجده وقت ما تحتاجه ؛ لينال حظا وافرا من دعوات مرضاه .

يرى هذا " الحكيم " ان الطب رسالة لا تجارة ؛ لم يسع يوما الا الى وراء طفل مريض يداويه .
ولكن تلك القصة الانسانية لا تخلو من فصل لا انسانى ؛ فبعد ان انتشرت قصته قام عدد من الأطباء بمدينة طنطا بتقديم شكوى ضده بنقابة الأطباء نظرا لسعر الكشف المنخفض " 10 جنيهات " الذي يتقاضاه من المرضى؛ متهمين اياه " بوقف حالهم " ؛ فى شكوى لو نطقت لاشتكت من كتبوها وقدموها .

.. هنا يعيد الدكتور مشالى مهنة الطب الى اساسها ؛ باعتبارها من أنبل المهن على وجه الأرض وليس اقلها ، والطبيب بردائه الأبيض كملاك الرحمة للمرضى وليس كمثال للقسوة ، وعند رؤيته تهدأ النفوس وتطمئن لا أن تضطرب وتخاف ، وكإنسانٍ نبيلٍ يبذل الطبيب نفسه، ووقته، وحياته، ثمنًا لراحة الآخرين، وليس لراحته ورفاهيته ورصيده البنكى .

الدكتور محمد مشالى ؛ يجب أن يصبح مثالا يحتذى به لمبادئ مهنية نسيها كثيرون؛ ويجب ان نكرمه لأنه يعيد الينا تذكيرنا بإلانسانية التائهة وراء اللهث عما تخطاه حكيمنا ؛ فهنا تكريمه هو تكريم للايمان وللاخلاق والكفاح والصبر؛ وتكريم للبالطو الابيض الذى يصر حكيمنا على ان يزال ناصعا كملاك للرحمة .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط