الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في عيد الأم الغائبة


كانت بيني وبين أمي أحاديث ودِ دافئة وحكايات لا تنقطع ، وكان صوتها هو العالم السحري الذي لا أَملّ الحياة فيه، أستمع لحكاياته وأساطيره، وأستقي منه الحكم وأستشرف به الطريق ، وكان حضنها هو أكثر الأماكن التي أتمتع فيه بالأمان في هذا العالم الموحش المضطرب، كان مجرد وجودها على قيد الحياة يشعرني بالطمأنينة حتى لو انشغلت عنها بأمور الحياة الرتيبة وشئونها المتعددة، لأن في وجودها قوة خفية، قوة تستطيع أن تدعمك وأنت في أشد لحظات الضعف والوهن والاحتياج. 

حينما نكبر ويشتد عودنا ونستقل بأنفسنا، تكون أمهاتنا قد قطعن طريقًا طويلًا في اتجاه الشيخوخة ويصبحن في حاجة أكثر للود وللكلمة الحنونة. تصبح الأم الحازمة القوية والتي كانت بنظرة من عينيها تقيم الدنيا ولا تقعدها، وكلمة توبيخ منها كفيلة بأن تراجع كل ما بدر منك طوال اليوم وتشعرك بالندم، تصبح في حاجة الى كلمات بسيطة تدخل في قلبها السرور، وقت قليل تقطعه من يومك لتسامرها، خبر طيب يسعدها حتى لو زائف، نتيجة أشعة تحملها إليها لتطمئنها على صحتها، حتى ولو بالكذب، تجلس لتستمع معها لأغنيتها المفضلة، تشاركها حكاية، ربما سمِعتها منها مرات، لكن تشعرها دائمًا أنك تسمعها لأول مرة، اتصال هاتفي منك لدقائق معدودة قبل النوم تجعلها تنام قريرة العين، الهدايا البسيطة التي تقدمها لها قد تصبح غالية القيمة عندها ، لا لشيء سوى أنها شيء منك ، وأنت عندها كل شيء.

الأم كالمحارب المنتصر على الدوام ، منذ اللحظات الأولى التي يخبرها فيها الطبيب أنها ستصبح أما حتى آخر نفس يخرج منها وهي تودعك وتتمنى لك السلامة ، وإن عجزت عن النطق به، تعاني في الحمل، وتتألم في الولادة، وتشقى في تربيتك، وتسهر على راحتك، وتنزعج لما يقلقك، وتتألم لأوجاعك، وتشاركك الهموم، هي التي تُعِدٌك كي تصبح انسانا، وهي التي تمنحك ما لديها بلا مقابل، وهي التي تفني حياتها في خدمتك بلا تردد، حتى في أشد لحظات المرض والعجز تجدها تطمئنك عليها وكأنها تمد لك يدها كي تتكئ عليها مثلما كنت تفعل وأنت طفل صغير.

كلنا نكره لأنفسنا الظلم، لكن الأم تمقته، كلنا نصبو للحق، لكن الأم تقدسه، كلنا نبعد عن أنفسنا الشر لكن الأم تحاربه. دائمًا ما تقف أمك بينك وبين أحزانك، بينك وبين همومك ، تبحث دائمًا في قاموسها السحري المُتخم بالكلمات الطيبة الساحرة عن كلمات تخفف بها عناءك، وتجدها أمامك في الأفراح تحمل الشعلة التي تضيء بها طريقك، وتمنحك بسمة عريضة دافئة مفعمة بالحيوية والرضا تملأ ما بين السماء والأرض.

أنت مدين لأمك بكل شيء، حتى في النجاحات التي كنت أنت السبب الوحيد فيها ، والطرق التي قطعتها وحدك في سبيلها، ذلك لأنها كانت معك ، تدعو لك، وتراقبك ، وتتمنى لك الوصول ، وتذلل عقبات طريقك بالرضا عنك، وتظلل عليك بكلماتها الطيبة وبحيلتها الضعيفة. هي كانت معك ، ربما لم تكن تراها أمامك ، لكنها كانت بلا شك من خلفك .. تدعمك.

يقول حافظ إبراهيم : الأمُ مدرسةٌ إذا أعددتها... أعدت شعبًا طيب الأعراق.
ولكن من يُعدُ الأم غير أمٍ مثلها ؟! ، في ظني أن الأمومة طاقة وهاجة بعثها الله في أمنا حواء ، وظلت تنتقل محملة بسر لا نحيط به، وفي هذا السر تكمن قيمة الأمومة التي ميز الله بها المرأة عن الرجل.

الأم مدرسة ودار عبادة ومظلة وقاية وسفينة نجاة ، وقد تصبح ابنتك في أوقات، وقد تحل محل الأب في غيابه في حالات كثيرة، الامر الذي لا يقدر عليه الأب أن يفعله في غيابها. حتى المرأة التي لم تلد، أظنها خلقت أما، فالامومة كامنة فيها ، تتدفق عبر مشاعرها ، وتمنح حنانها لمن يستحقه بنفس الطاقة التي تمنحها الأم لأبنها أو بنتها.

إذا فقدت أمك، فلا تحزن ، لأنك كنت هذا العالم الذي عاشت من أجله، وهذا العالم هو ما تبقى منها في الدنيا.. فأنت هي، ويكفي أن يكون هذا هو يقينك كي تستعيد صورتها فيك من جديد لتراها ماثلة أمامك ، باسمة، راضية، مثلما كانت في الدنيا تعيش معك ، وحولك.... وفيك.

الأم أعظم من أن نكتب عنها، لأننا نمثل في هذه الدنيا ، بكل ما فينا من طاقة إنسانية وأمل في الحياة ،كتابها المفتوح.
 
الأم أبقى من أن تغيب، وأدنى إلى قلبك من أن تُنسى وأقرب منك إلى نفسك .

إذا ماتت أمك، فانتظر لقاءها بعد حين، وتهيأ له كما يتهيأ الحبيب لملاقاة حبيبه.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط