صراع الماضي والحاضر على مسرح الطليعة
المسرح دائماً أبو الفنون يحتضن فى بوتقته أشكال الفن وأنواعه بما يتوافق
مع المزاج العام للجمهور ، وفى القاعة الصغيرة التى تحمل اسم الشاعر
صلاح عبد الصبور بمسرح الطليعة أحد المسارح التابعة للبيت الفنى للمسرح عرضت الفترة
الماضية مسرحية ثرى دى تأليف الكاتبة صفاء البيلى وإخراج محمد علام.
ومع صغر حجم القاعة
باعتبارها مجرد حجرة سقطت الحواجز بين الجمهور والمشاهدين نظراً لقصر المسافة
بينهما، فجلسنا على مقربة من مجموعة الممثلين الشباب أبطال العرض هاجر عفيفى، رحمة، ريهام أحمد، بسمة شوقى، ياسر فرج، ميدو عبد القادر .. ودخلنا تلك القاعة التى لعب
الديكور فيهاً دوراً كبيراً بإيهام المتفرج باتساعها نظراً للكتابات الفسفورية ذات
الألوان الصارخة على الخلفية السوداء والتى تخطف الأعين وتبدو من هنا وهناك بحيث
يخيل إلينا تلك الخطوط الزخرفية فى شكل ديكور يعبر عن الارتباك والعشوائية وأعتقد
أنها ترجمة للواقع الأليم الذى نعيش فيه فى ظل المتغيرات الحياتية التى تحيط بنا، كذلك وجدنا بعض المربعات الشطرنجية لاستكمال هذا الديكور البسيط الذى بدا واضحاً
من خلال الصندوق المفرغ الذى دارت جميع أحداث المسرحية من خلاله فى قلب المسرح.
وقد
بدأت المسرحية بمؤثرات صوتية مع حركة الديكور فى دوران الصندوق الذى اعتلاه
الأبطال فى شكل حلقات دائرية وتعالت الموسيقى التى تآزرت فيها الأصوات البشرية
واستخدمت كمؤثر صوتى متصاعد مع بعض الضربات الإيقاعية، ثم دخلت أصوات الأبطال مع
صوت الموسيقى فى ارتفاع تدريجى، ثم انتقلت الموسيقى إلى أغنية حلوة يا بلدى
للمطربة داليدا وتغنى بها بطلى هذا المشهد، وكانت الأغنية متوافقة مع الحالة
الدرامية لوجود سائحة أجنبية وهو ما تماشى مع طبيعة الأغنية وتأثيرها النفسى علينا
كمتلقين.. وتناولت المسرحية ثلاثة موضوعات رئيسية تربط بين الرجل والمرأة فى قصص
تاريخية شهيرة أولها أنطونيو وكليوباترا ،وثانيها عطيل وديدمونة وآخرها شفيقة
ومتولى. وحمل عنوان المسرحية ثرى دى وهو ما يطلق على الصورة ثلاثية الأبعاد ووضع
أطروحاته فى ثلاث قضايا رئيسية تمحورت حولها الدراما المسرحية من خلال فكرة ال صورة الحركية المجسمة فى السينما والتى تقوم
بتعزيز الوهم البصرى، بحيث يشعر المشاهد وكأنه داخل الفيلم، أما فى المسرح فهناك
ما يوازى هذه التقنية لتبدو لنا الصورة مجسدة على خشبة المسرح باستخدام الهولوجرام
وهى إعادة تكوين صورة الأجسام بأبعادها الثلاث فى الفضاء باستخدام أشعة الليزر.. ولكن
لعدم توافر هذه التقنية فأعتقد أن المخرج تعامل مع هذه الفكرة كمفهوم يدل على
اختلاف الرؤى والأفكار بل والحقائق فى حالة من التعددية التى نعيش فيها وكأن
الحقائق لها أكثر من وجه فى وجهة نظر الأطراف المتصارعة أو المتنازعة أو حتى
المتأملة طيلة الوقت ،لنظل باحثين متلهفين حول الحقيقة المطلقة.
وهو ما أكدته
الأحداث التى تعاملت مع الموضوعات التاريخية الثابتة بشئ من الكوميديا الساخرة حتى
يسهل استساغتها بالنسبة للجمهور المتفرج وأيضاً لنقبل وجهات النظر الثلاثية
المتعددة لكل المطروح لنكتشف فى النهاية أننا أمام ثلاثة موضوعات كل منها له ثلاثة
أبعاد أو رؤى مختلفة تجمع ما بين الماضى بوقائعه وأحداثه وبين الحاضر بمستجداته
وإحباطاته أحياناً من خلال بعض الإطلالات السريعة بشكل ساخر يجعلنا نعود من
استرجاع الماضى للوقوف على خطى الحاضر.
وساعد على هذا
التجانس السينوغرافيا المسرحية الجذابة والمبتكرة بالنسبة للحركة والديكور والتى
فرضت نجاحها على عناصر العرض لوائل عبد الله ،وأيضاً أداء الممثلين كان متميز يحمل
ما بين البساطة والقناعة بالمضمون وتعبيراتهم وأدائهم فيها روح الشباب بالرقصات
والحركة السريعة النشطة ،فكان الإيقاع السريع وحيوية الأداء أعطت تميز ونجاح حقيقى
للعرض ،وكشفت عن هارمونى مستور بين طاقم العمل ككل ..والإعداد الموسيقى لإبراهيم
سعيد اعتمد على بعض الأغنيات مثل حلوة يا بلدى ،جزء من موسيقى مسلسل الضوء الشارد
للملحن ياسر عبد الرحمن ،أغنية الشموسة لعفاف راضى ،مقدمة موسيقية لأغنية يا حلو
صبح يا حلو طل لمحمد قنديل ،الشوكالاتة لسعاد حسنى وغيرها ..أما موسيقى المسرحية
التى تخللت تتابع المشاهد فاعتمدت على المؤثرات الصوتية ،ثم نغمات فى جمل موسيقية
قصيرة مع استخدام آلة العود بإيحائها الشرقى ،وقامت الآهات الغنائية بتدعيم الأثر
الدرامى ،وفى بعض الأحيان المؤثرات عبارة عن مقاطع صوتية بها ضربات إيقاعية ، وفى
مشاهد أخرى اعتمدت الموسيقى على التنافرات لإعطاء جو سيكولوجى متوتر.
وتخفت
الموسيقى أحياناً لتكون خلفية لبعض الحوارات كما حدث فى حوار كليوباترا عند وداع
أنطونيو ،ونلحظ وجود أغنية صاخبة بعد محاولة أنطونيو قتل كليوباترا للتعبير عن
قسوة المشاعر ،ونستمع لجملة موسيقية غنائية من البيانو تعبر عن الحالة الرومانسية
بين عطيل وديدمونة ،كما عبرت الموسيقى عن إحساس الخيانة والغدر باستخدام الوتريات
والضربات الإيقاعية التى تثير القلق ومع صوت الترومبيت كآلة نحاسية ذات قوة تتصاعد
الموسيقى تدريجياً وتتفاعل مع الأداء الدرامى المسرحى بعد قتل ديدمونة، أيضاً عبرت
الموسيقى عن القهر والغربة بموسيقى شرقية من العود والوتريات فى جملة لحنية شجنية
تتصاعد مع نهاية المشهد التمثيلى .
وكان هناك بعض العبارات الغنائية التى عبرت عن
الحالة الكوميدية كما فى "أنا مش سهلة ولا رخيصة أنا حلوة وبرنسيسة" ..والأداء
الغنائى من الأبطال عمل على تبسيط شكل الدراما وجعلها أكثر قرباً من المشاهدين
نظراً لارتباط الغناء تحديداً بوجدان الجمهور العربى ،فمثلاً أداء مطلع أغنية يا
حلو صبح يا حلو طل ،ثم أغنية حلاوة شمسنا بأداء أكابيللا أى بدون مصاحبة موسيقية
،كذلك الهمهمة الموسيقية لألف ليلة وليلة.
واختتمت المسرحية بوجود ثلاثة أوجه لشفيقة وثلاثة آخرين لمتولى وهى الغاية
من وجود الثرى دى لإبراز التعددية فى
المنطق والأشياء والتعامل مع غياب الحقيقة التائهة كأنها أحد المسلمات الآنية
..والحقيقة أننا استمتعنا رغم صغر القاعة وبساطة الديكور وحتى الملابس والإكسسوار
إلا أن جميع العناصر تكاتفت معاً فى خلق وحدة عضوية متكاملة ومتجانسة مع الأداء لم
نشعر فيها بخلل بل كان للمتعة الحسية والتوغل فى الموضوعات التاريخية أثر على
استرجاع الماضى وربطه بالحاضر بشكل أو بآخر طوال الوقت.
فالشكر لكل القائمين على
هذا العمل وبالأخص الفنان والمخرج المسرحى محمد دسوقى مدير عام مسرح الطليعة على
جهده فى تقديم أعمال مسرحية متميزة رغم ما قد يعانيه مسرح الدولة بشكل عام إلا
أننا بين الحين والآخر نجد هذا المسرح لافتاً للأنظار بما يقدم من إبداعات تبرهن
على قيادة مسرحية متطورة تبحث عن الجديد بالقيمة والمعنى والإحساس.