الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دينا أبو حلوة تكتب : ديون لم تسقط في عُرفِ الحب

صدى البلد

من حينِ لآخر تترك العنان لروحها لتصبح مثل بالونة معبأة بالهيليوم تحملها وتحلّق بها في الأفقِ البعيد .. علّها تلمس تلك النجوم التي طالما تمنت يومًا أن تكون مثلها أو علّها تصطدم بنجمتها البراقّة التي ألفَت الحديث معها ذات مرة حتى أصبحت في ذمة العشق ..

إنه يوم عطلتها والذي قررت فيه أن تعلن التمرد على كل شيء قد إعتادته في أيام العمل ، فقد تَخَلت عن ملبسها الكلاسيك دومًا ، عن سيارتها ، وعن كل أحمالِ قد تُثقل روحها شيئًا فشيئ ، لقد قررت أن تصطحب نفسها في نزهة خلوية حيثُ الجو بدا عليلًا لها ، والشوارع تبدو هادئة وكأنها قد أعلنت الإستعداد للترحاب زائرتها الوافدة ، والأشجارُ قد إصطفت على الجانبين و الرياحُ برفقتها لتجعلها تتمايل في شئٍ من الدلال ، والورود قد خرجت من مكمنها بألوانها الخلابة فقط كي تزيد روحها بهجة ..

أما هي فأخذت تستنشق الهواء وكأنه حبيب قد عاد بعد سفر طويل لتحتضنه بأقصى أعماقها ، وأثناء تجوُلها ..تارةً تراها تتأمل منظر الأشجار المحاطة بها ، وتارةً تحملق في وجوه المارة وكأنها تبحث في وجوه كلِ منهم عن ملامح تشبه ذاك البعيد عنها ، وتارة أخرى تتأمل إثنين على الطريق تتشابك أيديهما ويتداعبان بالكلمات ، ولكنها أخيرًا ذهبت إلى ذاك المكان المفضل لها ، وكعادتها جلست في الطاولة المطلة على منظر النيل ، وفى الإتجاه المقابل لأشعة الشمس حيثُ منظر الغروب .. فقد كان لسحر ذلك المنظر أثره البالغ في تصفية ذهنها من أي عوالق به ، وبدا أيضًا مألوفًا لها ومتماشيًا مع مزاجيتها بذاك الوقت .

بعد دقائق أتى النادل وبيده قائمة الطعام والمشروبات ، وبالفعل ألقت نظرة سريعة عليها دون أن تطلب شئ ، وأثناء ذلك كان بالطاولة الأمامية ثمة حبيبين ، الفتاة يتخلل تقاسيم وجهها ثمة حزن يلامسه شيئ من الغضب الطفيف ، عيناها مُسلطة على منظر النيل وكأنها تشتكى له حزنها ،بينما الشاب لا تكاد عيناه تسقط من عليها .. حائرًا كيف يسترضيها ! ..

حَاولتَ هي الإندماج مع ذاتها والإستمتاع بمنظرالغروب و النيل بهدوئه المفرط ، والموسيقى الكلاسيكة هي الأخرى تضفي سحرها على المكان .. فكل الأسباب قد أعلنت رغبتها في إضفاء السحر بداخلها ، بعد دقائق رأتَ الشاب قد ترك مقعده وإتجه نحو النادل وهمس له أمرًا ما، وما كان من النادل إلا أن أومأ رأسه بالموافقة ، ثم عاود الشاب الجلوس مع حبيبته ، وإذا بالموسيقى الكلاسيكية تتحول إلى أغنية حماقي الشهيرة " ياللي زعلان مني " .
وإذا بالفتاة قد إلتفت لحبيبها لتنعته بالجنون ، وما كان منها إلا أن أطلقت الضحكات المصحوبة بالفرحة ، وما كان من تلك البعيدة عنهم بأمتار بسيطة إلا أن أطلقت ضحكة توحي بالجنون ، ولكن تظَاهرتَ بالنظر إلى هاتفها .. وكالعادة كان ذاك الغريب هو أول الحاضرين إلى ذهنها .. تذكرتُ تلك الديون التي لم يستطع قلبها أن يُسقطها عنه حتى الآن !

وكأن الحنين قد ألهب ذاكرتها كي تستيقظ بكامل قوتها لتردد بينها وبين ذاتها :
نعم .. أنت مدينُ لى بكلماتِ لم تقال بعد ، ومدين لي بباقات التيوليب التي طالما تمنيتها منك والتي أعلم أنها لم ولن تصل ، ومدين لي بحفل عشاءِ فاخر مصحوب بالعزف على أوتارِ الكمانجا .. ومزيد من الفسح النيلية في مطلع الغروب ، وحقًا لم أكن لأعترض إذا كان في مركب بسيط يتخلله إضاءات ليلية وورودِ منثورة ، مدينُ لي بتلك اللحظات التي إستنزفت من تفكيرك كثيراُ والتي آثر كبريائك وأدِها قبل أن تستشعر الحياة كي تقول لي " إشتقتُ إليكِ " ، مدينُ لي بالبوح بلحظات فرحك ، ولحظات حزنك التي إنتهى بها المطاف إلى الصمت ، بلحظات غضبك المفاجئ ، ولحظاتِ طفولتك العفوية ، مدينُ أنت بثقة ، ولقاءِ عابر ، وفنجانِ قهوة ، ومكالمة بمنتصف الليل كي تخبرني أنك تحبني .. نعم أنت مدين لي بالكثير منذ أن تآلفت أرواحنا ..

ثم صمتت برهة و تنهدت لتُخرج بركانِ من الأسى ثم قالت في يأس : عبثُ هذا الذي يمليه عليك القلب! .. أعلم هذا جيدًا ..

وها قد شارفت على المغادرة بعد أن إكتست روحها بعضًا من وقود السعادة الذي يدفعها أن تستعد للهبوط من السماوات العلا إلى عالم الواقع كي تتلقى مزيدًا من الصفعات على وجهِ آثر إرتداء قناعِ من معدن .