الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: عندما يبدع "العقاد" في عشق "زيادة"

صدى البلد

"إنها حصن محاط بخندق" هكذا وصف الأديب الكبير الراحل عباس العقاد، الأديبة الراحلة "مى زيادة"، في كتاب "فى صالون العقاد كانت لنا أيام" للكاتب أنيس منصور، العقاد ذلك الأديب والمفكر والصحفي والشاعر، عضو في مجمع اللغة العربية، ابن محافظة أسوان الذي ترجمت له بعض الموضوعات وساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات، أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للأجانب من السائحين المتوافدين لمحافظتي الأقصر وأسوان، مما مكنه من القراءة والإطلاع على الثقافات البعيدة، وهو نفسه ذلك العاشق الذي قال "إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا"، قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، الذي كتب إلى "مي زيادة" قائلا: لا ينقصني من رؤيتك شيء... فإني أراك في غدوك ورواحك.

وكتبت "مي: في رسالة لـ "العقاد": لا تحسب أنني اتهمك بالغيرة من جبران فإنه لم يرني ولعلّه لن يراني ولكن طبيعة الأنثى يلذ لها أن يتغاير فيها الرجال.

فقد أحب العقاد الكثير من النساء ومن ضمنهن "مي زيادة"، الأديبة والشاعرة اللبنانية، التي انتقلت مع أسرتها للإقامة في القاهرة ودرست في كلية الآداب، وأتقنت بعض اللغات وعكفت على إتقان اللغة العربية وتجويد التعبير بها، ونشرت مقالات أدبية ونقدية واجتماعية منذ صباها فلفتت الأنظار إليها، فكانت تعقد مجلسها الأدبي كل ثلاثاء من كل أسبوع، صاحبة ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية.

يقال ان قلبها قد شغله كثيرا "جبران خليل جبران"، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة، ودامت المراسلات بينهما لسنوات، ذلك الأديب الذي كان يغار منه العقاد ويعلم أنه كان في قلب "مي" شيئا له، وتأثرت بعد رحيله كثيرا، وقد كان صالونها الأدبي بالقاهرة شاهدا على تعلق قلوب الكثير من الشعراء والأدباء بها، ممن تلهمهم روائع كتاباتهم وأولهم العقاد، ويقول العقاد في رواية "سارة"، التي خلدت قصة الحب بينه وبين "مي": "يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين.. يتلاقيان وكلاهما على جذوره ويتلامان بأهداب الأغصان أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق".

فقد أعلن العقاد حبه لـ"مي" في أبياته الشعرية التي أرسلها في رسائله لها، فيبدو أن شيئًا من الإعجاب الشديد أو حتى من الحب ولو بصورته العذرية، قد نشأ ذات يوم، بين الأديبة اللبنانية المتمصرة "مي زيادة" وبين الكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد. كما يبدو أن هذه العلاقة الرومانسية بين الأديبين الكبيرين تختلف عن علاقة "مي" برواد صالونها الأدبي الشهير، فهؤلاء جميعا تقريبًا، أغرموا بها، وفي طليعتهم أحمد لطفي السيد ومصطفى لطفي المنفلوطي، ولكن "مي" كما هو مؤكد، لم تبادلهم عواطفهم المشبوبة، فظلت مشاعرهم مقتصرة عليهم، أما العقاد فكان الأمر بينه وبين "مي" مختلفا وقد ظهر ذلك كثيرا عبر الرسائل المتبادلة بينهما، والتي يكشفها كتاب صدر حديثا في القاهرة يحوي عددا من رسائل العقاد إلى "مي" وإلى سواها، وعن قصة "سارة" لـ" العقاد" وفيها يؤرخ علاقته بـ"مي"، رغم اختلاف البعض ممن أنكر أن كانت "مي" تبادل العقاد نفس الشعور او أن هناك علاقة أكيدة بينهما..! فسطرت له بعض رسائلها، التي قالت له فيها: "وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك عليّ فأتوب على يدك وامتثل لأمرك.. في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك".

فقد لعبت "مي" دورًا خالدًا في حياة العقاد، فقال في أحد اللقاءات أن "مي" أعطته السعادة، والتي اعترف بحبه لها في أكثر من مناسبة ووصفها أنها مثقفة قوية الحجة تناقش وتهتم بتحرير المرأة، وكتب العقاد فيها أبياتًا لم تخرج للنور إلا بعد وفاته: "عشتِ يا ميّ هاجرًا أو عطوفًا.. أنتِ مرموقة على الحالتينِ.. عذّبيني أعرف مكانكِ عندي.. وألذّ العذاب لو فيه حيني.. وأُهنْ فيك كبرياء عزيز.. لم يكن قبل أن يراكِ بِهَيْن!".

وعلى الرغم من كثرة العلاقات العاطفية وتجارب الحب التي مر بها العقاد خلال تلك الفترة إلا أن قصة حبه إلي "مي زيادة"، تبقى هي الأهم والأشهر بالنسبة للعقاد الذي عرف عن طريقها الحب، ورغم أن العقاد قد خلد جميع محبوباته بما كتبه عنهن، إلا أنه لم يكتب عن علاقاته بـ "مي" كتابا كاملا كما كتب عن محبوبته الثانية "سارة"، ورغم هذا كله ذكر علاقته بـ "مي" في أكثر من موضع وهو يروي قصة حبه لـ"سارة".

وعندما ذهبت "مي" للحج في روما كونها تعتنق المذهب الكاثوليكي، فبعث إليها العقاد رسالة اشتملت على قصيدة مكتوبة بعنوان "إلى ميّ في روما"، والذي قال فيها:
«آل روما لكموا منا الولاء... وثناء عاطر بعد ثناء
وسلام كلما ضاء لنا... طالع الإصباح أو جن مساء
في حماكم كعبة ترمقها... مهج منا وآمال ظماء»

تلقت "مي" هذه الأبيات فبعثت إليه برسالة صريحة عبرت فيها عما تشعر به من حب وهيام ختمتها بقولها: "لقد أعجبتني أبياتك وأبكتني".

ورغم حبها لـ "جبران"، وتعدد النساء اللاتي احبهن العقاد إلا ان هذه الفتاة قد لعبت أخطر دور في حياة العقاد، لأنها أعطته من السعادة ما لم يكن يخطر على بال، ولكنها وقفت أمامه ندا لند وناوأت رجولته وسطوته وكبرياءه، وصدمت أحلامه باستقلالها وشبابها المتأنق المدرك لأصول العلاقات، فقال فيها: «لا أنا أعمى فأستريح ولا أنت من الحسن والصبا عاطل... بأي معنى عليك لا تعلق العين وأنت المبرأة الكاملة بوجهك الغض أم بقامتك الهيفاء...
لقد كانت علاقتهما مليئة بلوعة الشوق وألم الفراق.

وفي مرحلة من مراحل علاقة العقاد بـ"مي" شغلته المعارك السياسية عن تلك المحبوبة، ولقد كانت معارك طاحنة شهدتها صفحات صحف الوفد والصحف الأخرى، وبلغت مقالات العقاد التي كتبها ضد عدلي وثروت وإسماعيل صدقي قسوة بالغة حتى حذره بعضهم من التمادي في ذلك... إلا أن هذه القسوة كان يقصدها العقاد ويتمسك باستمرارها في هجومه على خصوم الزعيم سعد زغلول من أجل "مي" لأنها كانت تسارع بالاتصال به تستعطفه لتخفيف تلك الحملات خوفا عليه من الاعتقال والنفي وهو ما كان يشعره بحبها له أكثر.

ويروي الكاتب كامل الشناوى، فى كتابه "الذين أحبوا مى زيادة": و"أوبريت جميلة"، ان صديق العقاد والذي لازمه لأكثر من 30 عاما أكد بأن حب "مى" عصف بقلبها وقلب العقاد، ويحكي خالد محمد غازى، فى كتابه "مى زيادة: سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر"، إن رسائل العقاد بـ "مى" كان فيها من الشعور العميق ما يؤكد عن وجود مشاعر حب بينهما، فكانت تزور العقاد فى مكتبه، ولم تكن تعتقد برهبانية العقاد، لكنها كانت على يقين بأن جميع النساء فى نظره هى إمرأة واحدة.

وبصرف النظر عمن اختلف او صدق علي وجود قصة حب كانت بين العقاد و"مي"، جسدها العديد من بعدهم في مؤلفات وقصص ومقالات نشرت، وجميع كتب التاريخ تؤكد أن العقاد كانت نفسه تنطوي على قلب رقيق نابض بالحب، وأنه عاش أياما من حياته ذاق فيها طعم الهجر وقاسى خلالها من لوعة الحب، وان كان ممن يؤكد ان العقاد و"مي" كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان! وان كنا نختلف او نتفق، فليس ذلك هو محل الجدال، ففي حياة كبار الأدباء والمثقفين أكثر من قصة حب، فالأديب فنانا حساسا ووسيلته هي الكلمة وحجته المنطق، سطح احساسه وشعوره يعلو عن غيره من الآخرين، لا يمكنه أن تستمر حياته من دون حبا عظيم وهادفا يكون دافعا لتقديمه المزيد من الإبداع، ولكن ما يترسخ في عقول العديد عن وجود أسطورة حب بين العقاد و"مي"، يجعلنا نفتش عن وجود رغبة بداخلنا في ترك تلك الصورة في الأذهان لعل إياها تعلمنا معادلة الحب الصعبة في تلك الأيام؛ فقد ابدع "العقاد كثيرا في عشق "زيادة".