الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هيام محيي الدين تكتب: تجديد الخطاب الديني ( 7 ) تجديد أم تجميد أم تراجع

صدى البلد

في مقالاتي الستة السابقة عدت مع قرائي إلى الجذور الأولى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وخطابها المؤسس على وحي السماء المنزل من الخالق جل وعلا على رسوله المختار من بين البشر أجمعين ليكون مبلغًا للرسالة الخاتمة، التي تكرم الإنسان وتنير أمامه طريق الهداية والتقدم وتخاطب فيه العقل والروح والوجدان ؛ وتحارب فيه الشر والحقد والطغيان، وأثبتنا أن مصادرها هي الهدى الإلهي في الكتاب المنزل المحفوظ ؛ وما ثبت من سنة الرسول التي يبلغها عن ربه قولًا وفعلًا مما يتصل بأمور العبادة والعقيدة ومكارم الأخلاق ؛ مما يدركه العقل الإنساني والوجدان البشري وهما المخاطبان بالرسالة ؛ وتحدثت عن نشأة وتطور علوم الفقه والحديث والتفسير في بداياتها الأولى وروادها من العلماء الأفذاذ الذين سبق فكرهم عصرهم، وأكدت في كل مقال منها أنهم بشر يؤخذ منهم ويرد عليهم ؛ وأنهم مهما بلغت عبقريتهم وتميزهم الفكري فستظل أفكارهم أسيرة لعلوم عصرهم ومعارفه ؛ وأن على مفكري كل عصر أن يفحصوا المنقول إليهم من عصور سابقة بفكر جديد مستمد من تطور العلم واتساع نطاق المعرفة وقضايا المجتمع المعاصر ومتطلباته ؛ كما تحدثت عن انقسام الأمة والفتن والمحن التي مرت بها عبر خمسة عشر قرنا من الزمان ؛ وعن تعدد أراء الفقهاء واختلافهم في كل مسألة من مسائل الفقه تقريبًا ؛ وعن نشوء كهنوت يحتكر علم الدين ؛ ويتعصب للقدماء من الفقهاء والمحدثين والمفسرين ؛ حتى وضعوهم في مراتب تعلو مراتب الأنبياء والمرسلين ؛ ونزهوهم عن السهو والخطأ ، تنزيها مطلقًا ؛ ونسبوا إليهم قداسة فوق كل البشر ؛ ليتحكموا باسمهم في مصائر العباد ، ويسيطروا باسم الدين على مقادير البلاد ؛ وحرفوا الكلم عن مواضعه ؛ وجعلوا فهم أهل العصور السابقة ملزما لعصرنا حتى وإن تعارض مع العلم الثابت والعقل الناضج والوجدان الصادق ؛ وجعلوا فهم السابقين للنص الديني ملزما للمعاصرين حتى وإن تناقص مع اللغة التي نزل أو نقل بها النص ؛ وحين أدى هذا المنهج الذي ألغى العقل وقدس النقل إلى ظهور وانتشار فكر متطرف تحول إلى إرهاب مسلح يدعو لدولة ثيوقراطية ويستبيح قتل المعارضين لفكرهم بأبشع الطرق وأشدها خسة ونذالة وحولوا الإقليم كله إلى ساحة حرب وعدوان وتخريب اعتمادا على فتاوى وأحاديث وتفسيرات استمدوها من اجتهادات وردت في كتب التراث واعتبروها دينا ملزما ؛ ولكي نتخطى هذه المحنة فإن القاعدة الأولى ينبغي أن تكون نزع أي قداسة عن أئمة السلف ؛ والنظر إلى اجتهاداتهم وفتاواهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم ومناهجهم الفكرية وطرق الاستدلال التي اتبعوها على أساس أنها فكر بشري قابل لإعادة النظر والنقد والنقض والقبول والرفض دون مساس بثوابت العقيدة والعبادة والسلوك ؛ وعدم التوسع في الثوابت وتجنب إدخال التفريعات التي لا تخل بعقيدة أو عبادة فيما يسمونه " معلوما من الدين بالضرورة " فقد أسرف الكثير من دعاة التجميد في إدخال الكثير من القضايا التي تتغير باختلاف الزمان والمكان على أنها من ثوابت الدين ؛ وقد رأينا وسمعنا عن الكثير من هذه الحالات ؛ بعد طلب الرئيس من رجال المؤسسة الدينية تجديد الخطاب الديني فاحتالوا لتجميده ؛ وأبرز مثال على ذلك رفض الأزهر الشريف تكفير فكر جماعات التطرف وعلى رأسها داعش بينما كفر أحد علمائه الكبار من لا يقر بفرضية الحجاب فأثبت الإيمان لقاطعي الرءوس ونزع الإيمان من كاشفي الرءوس ؛ وأصبح قاطع الرقاب أعلى إيمانًا وأصح إسلامًا ؛ من تاركة الحجاب ولا شك أنه تناقض مضحك وشر البلية ما يضحك ؛ مما يؤكد أن الكهنوت المسيطر داخل مؤسستنا الدينية الكبرى بدأ حربه الجديدة ضد أفكار التنوير داخل المؤسسة وخارجها ؛ في معركة معادة سبق له خوضها ضد الإمام محمد عبده والشيخ على عبد الرازق والإمام محمود شلتوت والدكتور طه حسين والدكتور نصر حامد أبو زيد والمفكر الإسلامي فرج فودة وأديب نوبل نجيب محفوظ ، واستخدم كهنة التجميد ضدهم أسلحة دمار شامل تشمل العرض والأخلاق والتفسيق والتكفير والتفريق بين الأزواج ومحاولة الاغتيال بل والقتل فلا يمكن لمثل هذا الكهنوت أن يكفر جماعات الإرهاب لأنه يستخدم نفس وسائلهم في حربه ضد التنوير وقد حاول بعض مفكري الأزهر المتميزين والواعين لخطورة تجميد الخطاب الديني وجنوحه نحو التراجع إلى فكر ظلامي ؛ أن يجددوا الخطاب الديني دون التصريح المباشر بنزع القداسة عن اجتهادات وأحاديث وتفاسير وفقه العصور الماضية ؛ فقام كل من الدكتور سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر والدكتورة آمنة نصير أستاذة الفلسفة الإسلامية بنفس الجامعة باستخدام منهج يقوم بعرض الآراء الفقهية والعقائدية المتعددة والمتنوعة التي وردت بكتب التراث واستغلوا تنوعها الواسع والاختلافات بينهم في كل قضية تتراوح بين التشدد المنغلق والتيسير المتسامح وتبنوا قاعدة " استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك " وهي قاعدة مستقاة من الحديث الشريف لكي يختار الناس بحرية ما يرتاحون له من بين هذه الآراء الفقهية المختلفة إلى درجة التناقض ؛ وقد عاقب الكهنوت المسيطر العالمين الجليلين بمنعهما من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية التابعة للدولة رغم أنهما يدعوان إلى الأخذ بما يناسبنا من فقه السلف ، ولا يدعوان إلى استنباط فقه جديد ؛ كما أن مجموعة المحافظين على النقل المعادين للعقل بدءوا هجوما منظمًا على الفكر العقلي المطالب بإعادة النظر في المنقول وتأمل النص الديني في ضوء علوم العصر فوصفوهم بالعلمانيين الذين يريدون إخراج الناس من دينهم ؛ وتجاهلوا تفنيد فكر التطرف والإرهاب وبيان ما فيه من ضلال ، وتفرغوا للهجوم على كل من يحاول بجدية أن يفتح الطريق لتجديد حقيقي للخطاب الديني يعتمد على نزع القداسة عن اجتهادات السابقين ؛ واستنباط فقه جديد من النصوص الثابتة يتسق مع روح العصر وتطور المجتمع البشري ومتطلباته ولا يتعارض مع حقائق العلم ؛ وتنقيته من الخرافة والجهل ؛ ومما يتنافى مع المنطق والعقل ؛ ونبذ ما يدعو إلى الكراهية والحقد والتكفير ورفض الآخر والعدوان والتخريب والقتل ، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن بالحجة والعقل والبرهان لا بالإرهاب والسيطرة والطغيان ؛ ولكن هذا المنهج يهدد بقاء الكهنوت المسيطر على الخطاب الديني وينزع عنه قداسته وسلطانه ويحرمه من مكاسبه الأسطورية من خلال احتكاره للخطاب الديني ؛ وهي معركة قاسية طويلة بين الجمود والتخلف من جانب والتجديد والتقدم من جانب آخر ؛ وهذا ما سأتناوله في مقالاتي القادمة في الباب الثاني من هذه الدراسة بإذن الله.