الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

دنيا طارق تكتب: مذنبة

صدى البلد

يجلس بجوارها في سيارتها، تقودها هي، شاردة، تنظر يسارها على الطرق والناس، لا تنطق بكلمة، ترفع صوت المذياع لدرجة مزعجة ثم تخفضه ثانيةً، ينظر إليها حائرًا حول ما يحدث معها، سأم من تصرفاتها وردود أفعالها لكنه أيضًا يحاول أن يحل الأمر، كلما حاول أن يلمس يدها تبعدها عنه دون أن تنظر له، تقضم أظافرها كلما توقفت في إشارة مرور لتلتهي بها، لا يمل من محاولاته لفتح حوارًا معها حتى لا يتركها لقسوة تفكيرها.

قد أخبرته أنها لا تحب الصمت طويلًا حتى لا تستسلم لرأسها التي تشاجرها دومًا فتتملك منها، كانت تخبره أنها أحيانًا حين تغضب تشعر وكأن سهمًا ينغرس في رأسها من جهة ليخرج من الجهة الأخرى وبينما يحدث هذا تتألم لدرجة تجعلها تفقد القدرة على أداء أي شيء، تشعر حينها أن رأسها خُدرت، فتأتي بورقة وتضعها في قبضة يدها وتكرر الضغط عليها لعل هذا يسرسب القليل من الهدوء لرأسها بعد أن وجهت كل الغضب للورقة، وإذا لم تجد ورقة بجوارها تلجأ لقضم أظافرها كما تفعل الآن. تنهد ثم اقترح عليها:
• ما رأيك أن نذهب إلى السينما؟
• لا...لا أريد
• أتفضلين مكانًا آخر؟
• لا أريد أن أذهب لأي مكان
• ماذا عن عطلة الأسبوع

أكملت إجابتها وهي مازالت تنظر للطريق ليس له:
• سأنام
• وماذا عني ؟!

نظرت له ولم تجب، فصمت لدقائق وحاول بعدها أن يجد بابًا آخر :
• أريد أن أشتري....
قبل أن ينهي جملته صاحت به وهي منفعلة تأمره:
• كف عن الكلام رأسي لا تتحمل
رد بعد أن ابتعد قليلًا من الفزع حتى التصق بالباب الذي يجاوره:
• أنا آسف...لكني أتكلم حتى لا أتركك تفكرين ليس إلّا
أكملت على حالتها ذاتها:
• أنت تقنع نفسك بهذا..لكنك تتكلم حتى لا تترك رأسك أنت للتفكير ولا تهتم بإزدحام رأسي أنا
• إلى متى ستبقين تعلقين أخطائك عليّ ...تحاولين بكل الطرق أن تجعلي مني أنا المذنب

لم تتمكن من الرد عليه فبينما كانت تنظر إليه وهو يدافع عن نفسه قاطع حديثهما صوت سيارة قادمة أمامها فبعد أن أصابها الهلع حاولت أن تتحكم في سيارتها لتبتعد عنها في اللحظة الأخيرة بعد أن احتكت السيارتان قليلًا لكنها زادت سرعتها وفرت.

حاولت أن تهدأ وصفت سيارتها ونزلت منها لتجلس على رصيف تستنشق الهواء، ضمت وجهها بكفيها وظلت تبكي، دموعها تنهمر وهي تحاول أن تمنعها لكن يبدو أنه طال حبسها وكانت تنتظر لحظة إفراج، تنظر لسيارتها فتجد أثر الاحتكاك، خدوش بسيطة ذكرتها بجروح عميقة في قلبها، تذكرت حين كانت تجلس هي بجواره وهو يقود سيارته، كانت غاضبة منه لا تريد أن تتحدث معه ولمعرفته بصعوبة هذا عليها حاول أن يمسك بيدها كبداية لصلح خصامهما، في وقتها أيضًا ازاحت يدها كما تفعل دائمًا، هو مازال ينظر إليها ولا يهتم بأمر الطريق، يكرر إعتذاره وهي لا تجيب، غضب من صمتها فانفعلت هي الأخرى وطلبت منه أن تنزل لكنه لم يوقف سيارته، فخلعت دبلته وألقتها داخل السيارة، بدأ يبحث عنها ليعيدها في إصبعها، ففتحت الباب وهددته أنها ستلقي بنفسها وهو لا يهتم سوى بأمر الدبلة، حتى إنفلتت طارة السيارة من يده، الطريق لم يكن مكتظًا بالسيارات بل كانت معدودة عليه، حاول أن يسيطر على السيارة فاقترب من الرصيف لكنه في ثواني وجد السيارة تنقلب، وبينما السيارة تلتف حول نفسها كانت هي قد ألقت بنفسها واندفعت خارج السيارة من بابها المفتوح، أصيبت بجروح بسيطة في وجهها وكسر في يدها اليمنى حين سقطت فوقها.

أما هو.. فكان غارقًا في دماءه، وجدت الطريق إزدحم فجأة بالناس، اجتمعوا حول السيارة يحاولون إخراجه وهم مزعورين، وهي جالسة مصعوقة وترتجف لا تتحرك من مكانها حتى أخبروها أنه مات، انهارت بعد لطم وجهها ولم تشعر بشيء إلّا عندما فاقت ووجدت نفسها في المشفى وأهلها بجوارها.

من يومها وهي تتذكر الحادثة كلما مرت من الطريق ذاته، تشعر أنها قاتلة، يأتيها خياله فتحاول أن تقنع نفسها أنه هو السبب فيما حدث، لا تريد أن تشعر أنها السبب في موت أكثر شخص أحبته، وهي مازالت حية، تمنت أن تكون ماتت معه حتى لا تشعر بما تشعر به الآن.

يأتيها حتى لا يتركها تعذب نفسها لكن يبدو أن هذا العذاب سيرافقها طيلة حياتها، ربما يؤلمها أنه مات وهو غاضب منها أكثر من فكرة موته نفسها.

ربما لو تقبلت اعتذاره لكان معها الآن...خطأه في وقتها كان يُغتفر أما ما فعلته هي به لا يغتفر، كأنها تُعاقب على عدم سماحها الذي كان يمكن أن يحدث من قبل باستحالة سماحه هو لها إلى الأبد.

لكن الحقيقة هي لم تكن السبب بمفردها، حين اشتد الشجار بينهما وألقت بدبلتها وكانت تلك هي المرة الأولى التي تفعل فيها هكذا شعر أن كل شيء قرب أن ينتهي، بينما هو يبحث عن الدبلة الملقاة وهي تهدده بالنزول حاول أن يمسك بيدها وفي تلك الثواني كان يفكر أن يعاقب نفسه ويعاقبها، يعاقب نفسه على خطأه ويعاقبها على تهاونها في تركها له، أفلت الطارة برغبة منه فهو يجيد القيادة ولا يصعب عليه أن يتحكم بالسيارة في طريق شبه فارغ، لكن عقله هذه المرة كان يوسوسه شرًا، ظن أنه هكذا ينفذ عقابه وهو حقًا نُفذ، نُفذ عليه حين مات حول بقعة دماء ضخمة وكسور داخلية وعرة، وعليها حين ظنت أنها السبب الحقيقي في ذلك الحادث، لا أدري أيهما عقابه أهون لكني أظن أن عقاب تأنيب الضمير والندم وشعورك أنك الجاني الوحيد قاسي بما يكفي، أن تعيش بذنب لم ترتكبه لكنك تشعر أنه لا مذنب سواك.