أركن رأسه إلى جدار الغرفة المظلمة محتضنا نفسه بذراعيه جالسا القرفصاء.
غارقا فى دموعه التى تسيل من عينيه، ومعها تسيل ذكرياته نزيفا من الألم.
مذهولا مشدوها لا يصدق ماحدث كيف كاد أن يفتك بها ويقتلها
يعلم أنها لن تغفر له ما حدث
لطالما استلذ بتعذيبها، ولم تقدم هى له سوى الاهتمام والحب
عاش معها وكأنه شخصان أحدهما يؤذيها والآخر يحاول منعه من إيذائها
زاد نشيجه بشكل هيستيرى تذكر كم عانى صغيرا وعاش طفلا محروما وحيدا خائفا مرعوبا نعم فقد عاش لحظات مهولة من الرعب والقسوة اعتادها بل صادقها وكأنه لم يجد خلاصا منها سوى مصادقتها واعتيادها بل واحترافها فكم تلذذ بإيذاء من حوله خاصة من لايتآلف معه
عاش طفلا لأبوين طعنا فى العمر أنجباه بعد أن تقدما فى العمر وانتهيا من تربية وزواج إخوته.
لم يكن مدركا لما يدور حوله ولم يعرف السر خلف اختيار والده للانتقال بهم للسكن فى منطقة نائية قلما تجد فيها سكان ولماذا تركوا منزلهم القديم حيث الجيران والأصدقاء.
لم يدرك وقتها خوفهما من أن ينكشف أمره وتصل له الشرطة فى أى وقت مثلما حدث من قبل بتهمة الدجل.
ولم يعرف من هؤلاء الغرباء أصحاب الزيارات المتكررة فيراهم يأتون من أماكن بعيدة محملين بالهدايا مغدقين العطايا على والده.
كلام وهمهمات غير مفهومة تشنجات وإغماءات.
كم رأى سيدات ورجال يأتون بكامل هيأتهم فيتحولوا بعد دقائق لحالة من الصراخ والبكاء وقد ينطق عقلهم الباطن بصوت مختلف ظانون أنه أحد الجن رافضا الخروج من جسد الضحية، فيدور حديثا بين الجن وعبدالجليل صاحب الجسد الضخم واليد الباطشة، فينهال عليه ضربا وبين كر وفر تسلم له الضحية عقلها وكأنه نجح فى شفائها وإخراج الجن من جسدها.
ولا بأس أن تكون الحالة مستعصية تحتاج لجلسة زار احترفتها والدته مع عبد الجليل تذبح فيها الذبائح ويدور الجميع فى حلقات رقص هيستيرية صرعية إرضاء للجن "الولى" كما يقال عنه ويرسم بالدم على الوجوه والجدران، مقشعرا بدنه من تلك المشاهد، فكم كره رائحة الدم وشعر بالغثيان رافضا عقله كل هذا الجهل، وكره رؤية والديه محترفى كذب ودجل مستغلين ضعف ضحاياهم ومعاناتهم النفسية، حتى اعتاد كل هذا
وكثيرا ما سمع بنفسه سخريتهم من ضحاياهم إثر تصديقهم لكل هذا العبث.
فرأى كثيرا وكثيرا.. وعانى أكثر وأكثر.
وما أفقده صوابه قسوة أمه التى سأمت كل شيء ولم يعد لديها الصبر لتربية طفل صغير؛ فصبت عليه سخطها، وصارت امرأة سليطة اللسان واليد... أكثر ما يهمها ما ستجلبه تلك الجلسات اللعينة من أموال.
لماذا لم تخفف عنه وطأة هذه الحياة؟!
كلما تذكر نفسه صغيرا رأى طفلا هزيلا تجبرك ملامحه على التعاطف معه فلم يلعب مثل الأطفال كان محظورا عليه مخالطة الجيران حتى المدرسة لم ينتظم فى حضورها ابدا.
بعد سنوات مات والده، وخرج للعالم؛ فلم يعد هناك سببا لاعتزال الناس، خرج وبداخله وحش كامن يحمل ملامح بريئة هادئة، لم يتردد يوما فى إيذاء من حوله؛ لذلك تفرق عنه الأصدقاء إلا صديقان.. لم يختلفا كثيرا عنه فكونوا معا مثلثا للشر ومنبعا للأذى.
ظل كما هو تارة يخرج منه الوحش وأخرى يغلب عليه الطفل
إلى أن رآها بعد التخرج... فتاة بسيطة مكافحة تعيش مع عمتها المريضة بعد أن مات أبواها تزوجا سريعا فقد ترك له والده ما يكفيه وأرادت عمتها الاطمئنان عليها؛ فلم تلتفت لغموضه ولم تسأل عنه.
تلذذ بإحراجها أمام الأصدقاء، ساخرا منها بل ومنعها منهم ومن الحديث مع الجيران ظلت حبيسة المنزل، تكرر ضربه لها دون سبب، أهانها بكل الطرق، وما يلبث أن يظهر الطفل البرىء بداخله رافضا كل ما يفعل، فيعود إليها باكيا معتذرا، وما أن تغفر له.. يعود لأدراجه مرة اخرى مستغلا حبها له وحاجتها إليه فهو يعلم أن لا مفر لها منه إلا إليه.
وكلما همت بالانصراف عنه هددها بأنها ستعود بلا ملجأ فليس لها مأوى بعد أن ماتت عمتها، تحولت حياتها معه إلى سجن انفرادى تعانى فيه الإهانة.
فلجأت بدهاء المرأة لسلاح التبلد واللامبالاة وتسلحت به.. حتى أنها لم تعد تتألم من ضربه مما أشعل مرجل غضبه.
كاد الشك أن يفتك به ويأكل ما تبقى منه
فقد صوابه وسار شاردا حائرا بين الناس
زاد فى منعها من الخروج حتى وإن مرضت لا تذهب للطبيب.. فلم تعره اهتماما
فاض به الكيل صرخ بوجهها
"انت تتفننين بتجاهلى"
"تجاهلك؟!"
نظرت إليه بعينين كالزجاج وتحجرت دمعة فى عينيها وتحشرج صوتها "أنا لا أراك.. لقد اعتبرتك فى عداد الأموات"
استشاط غضبا وقد لف يديه حول عنقها
قاومته وارتفع صراخها مستنجدة بالجيران
دخلوا بعد أن كسروا الباب.. أنقذوها من بين يديه وقد كادت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة.. نهرهم وحاول احتضانها وراح ينتفض واتسعت حدقة عينيه فابتعدوا عنه خوفا منه وشفقة عليهما ثم تركها ودخل حجرته المظلمة باكيا.. فطالما لجأ إليها صغيرا.
وها هو يسمع وقع خطوات تعدو إليه
ليتها تعلم كم أحبها وكم كان ضحية مثلها وكم تمنى أن يعيش حياة سوية
ترى.. من صاحب تلك الخطوات؟!
هل عادت إليه؟!
لا ليس كما ظن..
إنهم زوار جدد يحملون له زيا خاصا ويرتدون زيا يحمل اسم مستشفى للصحة النفسية
بينما ظلت هى ملقاة على الأرض تفكر.. باكية لحاله مشفقة عليه..
هل باستطاعتهما مواصلة حياتهما بعد علاجه؟!
أم ما عاناه هو.. جعله غير قابل للعلاج؟!