الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

ناصر خليفة يكتب : هكذا كان عهدي بأمي

صدى البلد

لم تذهب أمي إلى مدارس ولم تتلق دروسا خصوصية بالحصة أو بالساعة أو المنهج، ولم تحجز مراجعات قبل الامتحانات ! فلم تكن في قريتنا وقت طفولة أمي أو في صباها مدارس من الأساس !! كانت القلة القليلة من التلاميذ تذهب إلى بلدة أخرى بعيدة عن قريتنا، يمتطون الحمير والبعض يمتطي قدميه للوصول إلى موقع المدرسة !!، يقطعون مسافات وفي جيوبهم خبز يابس مخلوط بالجبن القديم، هكذا كانت أيامهم وهكذا كان تعليمهم في قرى الصعيد اليتيم من بعد عهد الفراعنة وحتى الآن !!، فلم يكن لديهم أتوبيس المدرسة ولا اللنش بوكس ولا الدادة دودي !! 

لكن كان لأمي شأن آخر فقد كانت بالنسبة لجدي ساعده الأيمن، فهي بنت ابيها القوية، حتى أنه كان يناديها باسم ولد وليس باسم الأنثى، أمي تعلَمت من قربها من والدها الكثير والكثير، من فنون التعامل مع البشر والحجر، جدي غرس فيها معاني الحكمة والطيبة والعقلانية، والجرأة والشجاعة والإقدام، والمروءة والشهامة، والأدب والأخلاق، كان يحكي لها الحكايات ويسرد لها القصص والمغامرات، فكانت أمي "رحمة الله عليها" موسوعة من الروايات ذات الحِكم، كانت أفضل علما ووعيا من هؤلاء الذين تلقوا العلم البدائي في مدارس بدائية، كان في استطاعتها أن تحسب حسابات في الجمع والطرح والقسمة والضرب في وقت قياسي، وهي التي لم تحفظ جدول الضرب ولا أي جداول أخرى من رياضيات ابن الهيثم والرياضة الحديثة !!

كان من عظيم صفاتها أنها تحب العدل والحق والجمال وهي لم تقرأ في مبادئ الفلسفة ولم تعلم شيئا عن مدينة أفلاطون الفاضلة!!، تكره الظلم وتمقت الشر والأشرار، كانت تقول كلمة الحق في وجه أصحابها ولا تستحي من أحد إلا فيما حَرم ربي، كانت حريصة دائما على التواصل مع الأقرباء والأرحام، تحبهم وتعزهم وتكرمهم، تحب العطاء وتبذل ما في وسعها لمساعدة الآخرين، عاشت الحياة بكل تقلباتها وتحدياتها وتغيراتها، في غياب والدي وسفره لسنوات كانت لي ولأخوتي الأم الحنون والأب الشديد ، كانت بارعة في علم الاقتصاد المنزلي وتدبير الأمور المالية وهي لم تتلق دروسا في أقسام التجارة والمحاسبة والاقتصاد ، تحملت المسؤولية الاسرية والرقابة والمتابعة كان لديها وعي وإدراك وتوقعات مستقبلية وهي لم تكن تعلم ما الكتاب ولم تكن تدري ما القلم .

إنها بنت الصعيد الأصيلة الحنونة التي تعلمت منها ما لم أتعلمه من أحد سواها، إنها أمي "رحمة الله عليها" مر على رحيلها سنتان وكأن الدنيا كلها عني رحلت ..
تحية إجلال وتقدير لكل أم تشبهك يا أمي ..